اطلس: بينما تنشغل العواصم الكبرى بخطابات السياسة والهُدن المؤقتة، يرزح أكثر من مليونَي فلسطيني في قطاع غزة تحت وطأة كارثة إنسانية غير مسبوقة، عنوانها الجوع والموت البطيء، وسلاحها الحصار والتجويع، ومرتكبها سلطة الاحتلال الإسرائيلي التي تحوّل حق الحياة إلى امتياز، وتمنح الطعام والدواء بتصاريح مشروطة أو لا تمنحه إطلاقًا.
أطفال يموتون بحثًا عن الماء والخبز
في مشهد يلخّص عمق المأساة، وثّقت صحيفة The Guardian (19 تموز 2025) استشهاد طفلين شقيقين أثناء وقوفهما في طابور للحصول على الماء من أحد المراكز شمال غزة.
لم يكونا مقاتلين، بل طفلين يبحثان عن البقاء في عالم تخلّى عن إنسانيته، وماتا برصاص الجيش الإسرائيلي، حسب شهود عيان والهلال الأحمر.
هذا المشهد ليس استثناءً، بل جزء من سلسلة طويلة من الانتهاكات، حيث استشهد عشرات الأطفال منذ بداية العام أثناء محاولتهم الحصول على الطعام أو الماء، وهو ما تؤكده تقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف).
كان كرم الغصين، 9 سنوات، و”لولو” (اسمها الحقيقي لانا)، 10 سنوات، يجلبان الماء من محطة توزيع قريبة عندما أصابتها غارة إسرائيلية.
كان الشقيقان ينتظران بجانب محطة توزيع مياه، التي جلبتها احدى مؤسسات الإغاثة يحملان صفائح ودلاء، عندما قُصفت المحطة يوم الأحد الماضي، مما أسفر عن استشهاد ستة أطفال وأربعة بالغين وإصابة 19 آخرين، معظمهم من الأطفال.
استشهد كل من لولو وكرم على الفور، مُمزقين إربًا من قوة الانفجار وكانا مشوهين لدرجة أن والدهما منع هبة (الأم) من رؤية جثتيهما.”لم يسمحوا لي بتوديعهم أو حتى النظر إليهم ولو لمرة أخيرة”، قالت الام. “عانقني أحد إخوتي، محاولًا حجب المشهد عني وهو يبكي ويحاول مواساتي. بعد ذلك، لا أتذكر شيئًا. فقدت صلتي بالواقع”.
لانا، كان والداها نادرا ما يستخدمانه لأن لقبها، الذي يعني اللؤلؤة، كان يعكس التألق اللطيف الذي أضفته على الحياة العائلية. قالت هبة: “كانت تتمتع بشخصية مرحة، وقلب مليء باللطف”. وكان كرم ذكيًا، دائمًا الأول على فصله حتى أدت الهجمات الإسرائيلية إلى إغلاق مدارس غزة، كريمًا وناضجًا يفوق عمره. كان والده، أشرف الغصين، يناديه “أبو شريك” أو “شريكي”، لأنه بدا “كرجل في روحه”.
فرضت إسرائيل حصارًا شاملًا على قطاع غزة بدءًا من 2 آذار، مما دفع غزة إلى شفا المجاعة، ولم تُخفّف كميات الطعام والوقود والإمدادات الطبية المحدودة للغاية المسموح بدخولها منذ مايو من وطأة الجوع الشديد.
لطالما كانت محاولة الحصول على الطعام مخاطرة قاتلة لأشهر، حيث استشهد أكثر من 800 شخص منذ أواخر أيار/ مايو في هجمات شبه يومية شنها جنود الاحتلال الإسرائيليون باستخدام أسلحة، بما في ذلك قذائف الدبابات والمدافع البحرية، لاستهداف الحشود اليائسة بالقرب من نقاط توزيع الغذاء.
ومحاولة الحصول على مياه نظيفة هي أيضًا صراع. فقد دمرت الهجمات الإسرائيلية، التي استمرت قرابة عامين، محطات معالجة المياه وشبكات الأنابيب. في حزيران، حذرت اليونيسف من أن غزة تواجه جفافًا من صنع الإنسان، وأنه بدون وقود لتشغيل المحطات المتبقية، قد يبدأ الأطفال بالموت عطشًا.
كارثة غذائية شاملة: أكثر من 90% يواجهون الجوع
وفقًا لتقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) الصادر في ايار 2025، يعاني أكثر من 1.95 مليون شخص، أي ما يزيد عن 93% من سكان القطاع، من انعدام حاد في الأمن الغذائي، وتحديدًا ضمن المراحل الثالثة إلى الخامسة، وهي مستويات تعني “أزمة” وصولاً إلى “كارثة غذائية”.
ووفقًا لتقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، يُواجه 470,000 شخص في غزة جوعًا كارثيًا (المرحلة الخامسة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي)، ويعاني جميع السكان من انعدام أمن غذائي حاد. كما يتوقع التقرير، بقلق، أن 71,000 طفل وأكثر من 17,000 أم سيحتاجون إلى علاج عاجل لسوء التغذية الحاد.
وقالت سيندي ماكين، المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة: “تتضور جوعًا عائلات غزة، بينما يبقى الطعام الذي يحتاجونه على الحدود. لا يمكننا إيصاله إليهم بسبب تجدد الصراع والحظر الكامل على المساعدات الإنسانية المفروض منذ أوائل آذار”.
وأضافت: “من الضروري أن يتحرك المجتمع الدولي بشكل عاجل لإعادة تدفق المساعدات إلى غزة. إذا انتظرنا حتى تأكيد المجاعة، فسيكون الأوان قد فات بالفعل بالنسبة لكثير من الناس”.
ويتوقع تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) لغزة أن تجدد العمليات العسكرية، والحصار الكامل المستمر، والنقص الحاد في الإمدادات اللازمة للبقاء على قيد الحياة، قد يدفع مستويات انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية الحاد والوفيات إلى ما يتجاوز حدود المجاعة في الأشهر المقبلة.
تواجه الغالبية العظمى من أطفال غزة حرمانًا غذائيًا شديدًا، كما أكدت 17 وكالة تابعة للأمم المتحدة ومنظمة غير حكومية في تقرير التصنيف المرحلي المتكامل.
وإلى جانب محدودية الوصول إلى الخدمات الصحية والنقص الحاد في المياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي، من المتوقع ارتفاع سريع في سوء التغذية الحاد في محافظات شمال غزة وغزة ورفح.
صرحت كاثرين راسل، المديرة التنفيذية لليونيسف: “لا يأتي خطر المجاعة فجأة، بل يتكشف في الأماكن التي يُمنع فيها الوصول إلى الغذاء، وتتعرض فيها الأنظمة الصحية للتدمير، ويُترك فيها الأطفال دون الحد الأدنى من سبل العيش. الجوع وسوء التغذية الحاد واقع يومي يعيشه الأطفال في جميع أنحاء قطاع غزة”.
وأضافت: “لقد حذرنا مرارًا وتكرارًا من هذا المسار، وندعو جميع الأطراف مجددًا إلى منع وقوع كارثة”.
أُغلقت المعابر الحدودية المؤدية إلى غزة لأكثر من أربعة أشهر – وهي أطول فترة واجهها السكان على الإطلاق – مما تسبب في ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الأسواق إلى مستويات فلكية، مما جعل ما تبقى من الطعام بعيدًا عن متناول معظم الأسر.
استنفد برنامج الأغذية العالمي آخر مخزوناته الغذائية لدعم مطابخ الوجبات الساخنة للأسر في 25 نيسان. وقبل ذلك بشهر تقريبًا، أغلقت جميع المخابز الـ 25 التي يدعمها برنامج الأغذية العالمي أبوابها بسبب نفاد دقيق القمح ووقود الطهي. في الوقت نفسه، هناك 116,000 طن من المساعدات الغذائية – وهي كافية لإطعام مليون شخص لمدة تصل إلى أربعة أشهر – في ممرات الإغاثة.
الوضع يزداد قتامة في شمال القطاع، حيث تفيد منظمة الصحة العالمية (WHO) بأن بعض العائلات لا تتلقى سوى وجبة واحدة كل يومين، وغالبًا ما تكون مكونة من أعشاب أو طعام فاسد، وهو ما أدى إلى تفشي أمراض سوء التغذية، خاصة بين الأطفال دون سن الخامسة.
انهيار الأمن الغذائي: لا زراعة ولا ماشية
لم تعد غزة قادرة على إنتاج غذائها. ففي تقرير قدمته منظمة الأغذية والزراعة (FAO) لمجلس الأمن الدولي في حزيران 2025، أكدت أن أكثر من 70% من الأراضي الزراعية قد دُمّرت بفعل القصف الإسرائيلي أو أصبحت غير صالحة للزراعة بسبب نقص المياه والبذور والأسمدة. أما الثروة الحيوانية، فقد شهدت انهيارًا شبه كامل، حيث نفقت 95% من الماشية تقريبًا بسبب نقص العلف والأدوية.
ولم يكن الصيد البحري أفضل حالًا، إذ تستمر إسرائيل في فرض قيود مشددة على الوصول إلى المياه الإقليمية وأحيانا الى البحر نفسه حيث استشهد وأصيب واعتقل عدد من الصيادين في الأشهر الماضية كان أخرهم اعتقال 4 صيادين في بحر غزة مساء السبت 19 تموز، ما أدى إلى توقف أكثر من 80% من قوارب الصيد عن العمل، في وقت تحتاج فيه غزة لكل مصدر غذائي متاح.
“فخاخ الموت” في غزة
نشرت صحيفة (فايننشل تايمز) تحقيقًا موسعًا بعنوان “Inside Gaza’s Death Traps”، وثّقت فيه شهادات فلسطينيين حاولوا الوصول إلى مراكز توزيع مساعدات تشرف عليها مؤسسة Gaza Humanitarian Foundation، بدعم وإشراف دوليين، لكنها تحوّلت إلى “فخاخ موت”.
تقول إحدى الشهادات: “ذهب زوجي ليجلب كيس طحين… لم يعد أبدًا”. وتشير الوثائق إلى أن القوات الإسرائيلية تطلق النار بشكل ممنهج على من يقترب من نقاط التوزيع، أو تُبقيها محاصرة بحيث يصعب الخروج منها بعد استلام المساعدات.
وقد وثقت وكالة رويترز في 19 تموز 2025 حادثة استشهاد 32 فلسطينيًا برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي بينما كانوا يحاولون الاقتراب من شاحنات مساعدات غرب غزة، في مشهد يعكس استخدام المساعدات كسلاح نفسي وتكتيكي في الحرب. حيث استشهد ما لا يقل عن 32 مواطنا بنيران إسرائيلية أثناء توجههم إلى موقع لتوزيع المساعدات في غزة فجر السبت، وفقًا لوزارة الصحة في غزة ومستشفى ناصر في خان يونس.
وادعى الجيش الإسرائيلي إنه أطلق طلقات تحذيرية على “مشتبه بهم” اقتربوا من قواته بعد أن رفضوا الاستجابة لنداءات التوقف، على بُعد كيلومتر واحد تقريبا من موقع لتوزيع المساعدات لم يكن نشطا آنذاك.
التجويع كسلاح: جريمة حرب مكتملة الأركان
وفقا لنظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية، يُعد استخدام التجويع كوسيلة حرب ضد المدنيين جريمة حرب بموجب المادة 8 فقرة (2)(b) وقد أدانت منظمات مثل هيومن رايتس ووتش وأوكسفام ومكتب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان السياسات الإسرائيلية في غزة، ووصفتها بأنها استخدام ممنهج للتجويع كسلاح جماعي، في انتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي.
كما أشار بعض الخبراء إلى أن طبيعة السياسات المتبعة، خاصة منع دخول المساعدات، قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية أو حتى الإبادة الجماعية، لكونها تستهدف بشكل ممنهج فئة سكانية محددة على أسس قومية وجغرافية.
من يُحاسب؟ وهل هناك آليات دولية فعالة؟
تتحمل إسرائيل، كقوة احتلال بموجب اتفاقيات جنيف، المسؤولية الكاملة عن حياة وسلامة السكان المدنيين في قطاع غزة. وقد بدأت محكمة الجنايات الدولية (ICC) في جمع الأدلة لفتح تحقيق رسمي بجرائم الحرب المحتملة، منها سياسة التجويع الممنهج.
لكن رغم هذه الخطوات، فإن آليات المحاسبة تبقى مُعطّلة أو بطيئة، خاصة مع وجود ضغوط دبلوماسية دولية تتزعمها الولايات المتحدة الامريكية تحاول حرف الأنظار أو تأخير الإجراءات، مما يُرسّخ سياسة الإفلات من العقاب.
إن ما يحدث في غزة ليس أزمة إنسانية طارئة فحسب، بل هو اختبار صارخ لضمير العالم. تحوّل رغيف الخبز إلى عمل بطولي، وقطرة الماء إلى فعل مقاومة، والطفولة إلى هدف عسكري. وإن لم يتحرّك العالم اليوم لوقف هذه الجريمة، فإن المجاعة في غزة لن تكون مجرد مأساة محلية، بل وصمة عار في جبين الإنسانية كلها.
