اطلس:فوجِئت عندما مررت في شارع النصر، وعلى مدار يومين متتاليين، بوجود أعدادٍ كبيرةٍ من الناس يتجولون في الشوارع الجانبية وباتجاه المخبز ونحو نقاط التسوّق، حيث عادت الحياة لهذا الشارع الذي كان شبه ميّتٍ.
وبالرغم من أنّ ابن قريبتي سبق أن أبلغني أنّ الناس قد لجأوا مُجددًا إلى حي النصر، ولكنّني لم أتوقع رؤية هذا الكمّ من الناس يقفون في طابورٍ طويلٍ في الشارع للحصول على الماء في خطٍّ يُقارب المائة مترٍ من الجالونات الصفراء وبجوارها أطفالٌ ونساءٌ ورجال من مختلف الأعمار. تلفتّ يمينًا ويسارًا لأجد المدارس على جانبيّ الشارع مكتظةً أيضًا بالناس، وكذلك الأمر في المستوصف السويدي التابع لوكالة غوث اللاجئين (الأنروا)، وقد جاءوا جميعهم من شمال مدينة غزة على إثر اجتياح الجيش الصهيوني لمدينة جباليا ومُعسكرها وبيت لاهيا أيضًا للأسبوع الثالث على التوالي، ممّا أجبر السُكّان على النزوح إلى مدينة غزة للنجاة من جحيم العدوان القاهر، فيصبحوا للأسف في أوضاعٍ معيشيةٍ أكثر قهرًا لجهة عدم توفّر وسائل الإنارة أو أيّ نوعٍ من المحروقات، وعدم توفّر المياه، وتدمير شبكة الاتصالات في المنطقة. كما لا توجد أيّة نقطة إسعافٍ في حالة الطوارئ، وذلك بعد تدمير مستشفى الشفاء وكافة النقاط التي توفّر خدمات طبية صغيرة والتي كانت في محيطه سابقًا.
أمّا هذه المدارس التي تتكدّس بالنازحين والنازحات من الشمال، فلم تعد تصلح رسميًا كمراكز للإيواء خصوصًا بعد أن أُخليت بالقوة الجبرية من النازحين والنازحات خلال جولات القصف والاجتياح البرّي السابقة، وباتت على الأقل نصف مدمّرة، بلا أسوار أو شبابيك أو أيّ نوعٍ من أنواع البنية التحتية، تحديدًا أثناء الاجتياح الأخير لمجمع الشفاء الطبي الذي تم تدميره بالكامل أيضًا مع معظم المربعات السكنية في مُحيطه.
أخبرتني زميلتي الأخصائية النفسية بعدما توجهت لهذه المدارس في عملٍ رسمي "أنّ النساء يعانين من النقص الفادح لاحتياجاتهنّ من المواد الأساسية سواء الغذاء أو المياه أو اللوازم الضرورية اليومية مثل الفوط الصحيّة للنساء وللأطفال، وملابس الصلاة التي يستخدمنها زيًا رسميًا ومواد النظافة الشخصية والمعقّمات". أشارت كذلك إلى معاناتهنّ من تراكم أكوام القمامة قرب المدارس، ممّا ساهم في المزيد من انتشار البعوض والذباب وسبّب الأمراض المختلفة خصوصًا للأطفال مثل الإسهال مما يسبب الجفاف، وأيضًا الأمراض الجلدية، هذا عدا عن الأمراض الصدرية نتيجة دخان النيران من الحطب والفحم اللذين يُستخدمان كوقودٍ لكافة الأغراض. وأبلغتني بانتشار مرض الكبد الوبائي بدرجاته المختلفة، هذا بالإضافة لتفاقم الأمراض المزمنة لدى الكثير من النازحات والنازحين حيث لا يتوفّر العلاج لمجمل الأمراض.
تنتشر في مراكز الإيواء أيضًا أشكالٌ متعددةٌ من العنف الأسري والاجتماعي، ومظاهر الاستغلال بكُلّ أشكاله، للنساء والأطفال خصوصًا مما يستلزم الدعم القانوني وتوفير الحماية لهنّ. بعد زيارةٍ لمراكز الإيواء، أخبرتني زميلتنا المحامية هي الأخرى أنّ الوعي القانوني متدنٍّ إلى درجة أن بعض النساء ذكرن أنّ أزواجهنّ ألقين عليهنّ يمين الطلاق مراتٍ عديدة تتجاوز الحدّ القانوني، وهنّ لا يعرفن إن كنّ أصبحن مطلقاتٍ فعلا رغم استمرار حياتهنّ الزوجية. قالت لها إحدى النازحات: "مية مرّة رمى عليّا اليمين، يمكن أنا هالحين قاعدة معاه بالحرام، إيش بيعرفني!"، في حين قالت أخرى أنّهم زوّجوا ابنتها الطفلة وعمرها أقل من 14 سنة استغلالًا لحاجتهم وفقرهم. وأضافت المحامية أن انتهاك حقوق النساء في حضانة ونفقة الأطفال انتشرت بوضوح في كافّة أماكن النزوح التي تردّدت عليها لتقديم الاستشارات للنساء.
صحيحٌ أنّ مشكلات النزوح وتبعاته تتشابه في جميع مراكز ومخيّمات الإيواء على كافّة المستويات، حيث انتهاك حقوق الإنسان بالكامل من قبل حكومة الحرب الصهيونية وفي مقدمتها انتهاك الحق في السكن بسبب التهجير القسري، وانتهاك الحق في الأمن الإنساني أيضًا، ولكنّ ما تعانيه النساء وأطفالهن في مراكز الإيواء في مدينة غزة يفوق الوصف نظرًا للحصار ولغياب أيّة جهة رسمية قادرة على ضبط الجرائم المجتمعية المُرتكبة ضدّهن. كما أنّ اللجان الإدارية في معظم المراكز ليست ذات مرجعيةٍ رسمية مما يزيد الأمور صعوبة، حيث شُبهة استغلال النفوذ وعدم الإنصاف، ممّا يمنع النساء عن التقدم بالشكوى، فقد قالت إحدى النساء للباحثة الميدانية: "خلينا في اللي إحنا فيه أهون من الشكوى. والله الشكوى فضيحة وبتصير المدرسة كلّها تعرف قصتك ويا ريتهم بيوقفوا مع الست، دايمًا عندهم الرجل والولد على حق، إنسي الموضوع".
للأسف، غلبت هذه المشكلات والإحباط والغضب الناتج عنها شعوري بالسرور لعودة الحياة لأحياء غرب غزّة، لأنّنا نعم نريد أن يعود الناس والمدينة للحياة والحركة، ولكن إلى حياةٍ أفضل، كريمة مُعزّزة ومشكلاتٍ وانتهاكاتٍ أقل وأقل.
زينب الغنيمي، من مدينة غزّة تحت القصف والحصار