اطلس:بالأمس٬ وأثناء جلوسها على شاطئ بحر مدينة النصيرات٬ أرسلت زميلتي صورةً ومقطع فيديو للميناء الأمريكي العائم على شاطئ بحر غزة، وعلّقت قائلة: "أصبحت أكره النظر للبحر"٬ ققلت لها: "ربما لم يعد هذا البحر لنا حاليًا لأننا لا نستطيع الاقتراب عدة أمتارٍ من شاطئه، وكلّ من يقترب على طول الشريط الساحلي تُطلق الزوارق الحربية النار عليه٬ ولكننا سنستعيد أيامنا وسنستمتع ببحرنا ونأكل السمك سويًا".
ثم بدا لي وكأنّ أمنياتي بدأت تتحقق، فقد بدأ صباح هذا اليوم بتفاؤلٍ كبير، إذ تلقيت وعدًا جدّيًا من قريبتي بوجبةٍ من السمك الطازج لغداء اليوم، الجمعة، خصوصًا أن جميع الأهل والمقربين يعلمون جيدًا أنني لا آكل اللحوم ولكنني أحب أن آكل السمك. وقد ذكّرني الوعد بتناول السمك اليوم بعادتي أنا وصديقاتي، وكيف كُنّا سابقًا وعلى مدار سنواتٍ طويلة نجتمع سويًا في مناسباتنا الخاصة والعطل الرسمية في مطعم المرسى بالتحديد لتناول وجبة من السمك الطازج.
ويُعتبر يوم الجمعة يومًا مباركًا في عاداتنا وتقاليدنا الفلسطينية، وهو كذلك في عُرف باقي المجتمعات الإسلامية، إضافةً إلى كونه يوم عطلة رسمية. واعتادت العائلات أن تطبخ في هذا اليوم وجبةً دسمة، قوامها الرئيسي أيّ نوعٍ من اللحوم (لحم بقر أو غنم، أو دجاج أو نوع آخر من الطيور، أو أرانب، أو سمك) رفقة الأرز غالبًا، وتتفنّنُ النساءُ في طبخ غداء هذا اليوم وفرش الموائد بأنواعٍ مختلفة من الطعام اللذيذ.
لكنّ شتّان بين ما اعتدنا عليه وبين حالنا الآن٬ فبسبب هذا العدوان البغيض اختفت اللحوم بكل أنواعها من الغالبية العظمى لموائد الطعام في قطاع غزة، سواء لغلائها إن توفّرت، أو لعدم وجودها في الأسواق أصلًا.
وبالنسبة لنا، نحن المحاصرات والمحاصرون في مدينة غزة وشمالها، فقد حدث أن توفّرت في الشهرين الأولين للعدوان بعض اللحوم ولكن بثمنٍ غالٍ جدًا ولم نتمكّن من شرائها. بعدها اختفت كُليًّا لعدة شهور ثمّ عادت للظهور ولكن المثلّجة منها وذلك بعد دخول البضائع للتجار مع بدء أيام عيد الفطر التالي لشهر رمضان. وعادت للاختفاء مُجددًا منذ أكثر من عشرين يومًا نتيجة الحصار المُطبق على قطاع غزة. ولكن على كلّ الأحوال، ومنذ بدء العدوان أي منذ ثمانية شهور لم يتوفّر السمك٬ لا طازجًا ولا مُثلّجًا.
جلست أتذكّر كيف أنّ صديقاتنا وزميلاتنا من المدن غير البحرية سواء في فلسطين أو الخارج كُنّ يحسدننا على أننا نتمتع بأكل السمك الطازج، وكنا نعدهن في حال حضرن إلى غزة أن نغمرهن بوجبات السمك يوميًا، ولكن الآن لم تعد غزة وباقي مدن القطاع نفس ما تُخزّنه الذاكرة، ولم يعد هناك مطاعم على شواطئها، ولا سكّان ولا زوّار لتناول وجبات السمك الشهي.
وكنت أفكّر هل سيتمكّن زوج قريبتي فعلًا من شراء وجبة السمك، خصوصًا والجميع يعرف كيف أحرق العدو الهمجي سفن ومراكب الصيد على امتداد شواطئ القطاع، والتي كان آخرها قبل أيام قليلة في المجزرة التي نفّذها الجيش على شاطئ مدينة رفح، فقد رأينا على التلفاز كيف أن الصيادين الذين غامروا وحاولوا النزول إلى البحر جرى قصفهم ومنهم الكثير ممّن استشهدوا أو أصيبوا بجراح بليغة.
وبالرغم من الشك الذي استولى علي من إمكانية الحصول على السمك في ظل هذه الظروف الصعبة، إلّا أنّني أحببت ومن معي التمسّك بأمنية أن يكون غداؤنا هذا اليوم سمكًا، فمنذ الصباح ناقشنا كيف سنطهو السمك بالقلي أو الشوي، بينما كانت والدة قريبتي تردّد المثل الشعبي الشهير"على مهلكن يا جماعة، مش لمّا ييجي الصبي بنصلّي على النبي، مش يمكن ما يقدر الرجال يجيب سمك؟".
مع اقتراب موعد الغداء لم يحضر السمك، ولم تتحقّق أمنيتنا جميعًا لنفس السبب، وهو استمرار هذا العدوان الصهيوني بكُلّ وحشيته على قطاعنا وعلى شواطئنا، هذا العدوان الذي يقضي على كلّ أمنياتنا وأحلامنا في هذه الحياة، سواء العيش بكرامة وأن نأكل ما نريد وأن نشرب ما نريد، ونتنقّل حيث نريد، أو حتى أمنية الموت بكرامة وأن نُدفن حيث نريد.
ولكن بالرغم من عدم نيلنا لما نريد هذا اليوم، وبرغم بطش الأعداء فُرادى ومجتمعين علينا، أثق بأنّ غزة ستبقى مدينتنا، وأنّ هذا البحر سيبقى بحرنا، وسيبقى هذا شاطئنا، وسنسترجع كُلّ ما كان لنا، بل أفضل ممّا كان حتى.
زينب الغنيمي، من مدينة غزّة تحت القصف والحصار