اطلس- لن ينجو أحد إذن من تيار الحرب الأهلية الجارفة ومعه تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، اللذان يبدوان اليوم كما لو أنهما عقاب الآلهة القديمة على خطايا البشر كما الدول، لن تنجو دولة واحدة من هذا الوباء القديم
وقد كان لنا في وقت مضى وباء واحد هو الوباء اللبناني أو المستنقع اللبناني وهكذا أسميناه، وعملت جميع الدول على تغذية هذا الوباء بالمال والسلاح لأجل أن يظل محصوراً هناك في بلد المنشأ أو المنتج، وألا يتمدد أو تنتقل عدواه خارج لبنان.
كم كان تعيسا هذا البلد، بلاد الأرز الجميل في سني شبابنا، وفي زمن الحلم؟ وكنا نملك ترف الوقت بين سيارتين مفخختين ينفجران بالتوالي في الشرقية والغربية من بيروت، وبين اشتباكين على خطوط التماس.
إن كانت الثورة الاشتراكية يمكن أن تنجح في بلد واحدة؟ وإن كانت هذه الكومونة الثورية في هذه الباريس الجديدة سوف تصمد في مواجهة كل هذه المؤامرات والدسائس الكونية؟ لكيما لا يستطيع النفط أن ينتصر على الشعر وأمراء الطوائف على قرطبة.
لكننا من بيروت هل نتجه إلى السودان أم الجزائر أولاً أم إليهما معا ؟ إلى الجزائر أولاً وبعد ذلك إلى السودان، وحينما نصل إلى هناك هذا هو جورج بوش الابن، ولكن «الخلاق» من ولاية يقال لها تكساس تشتهر كما العائلة التي ينحدر منها باحتكارات النفط، يا للنفط مرة أخرى.
وبوش الابن هذا هو الذي سيأخذنا كما في بساط الريح إلى العراق هذه المرة، في مطاردته كما تقول الأسطورة لغريم له يدعى الشيخ أسامة بن لادن، لكن بعض الرواة الذين شهدوا تلك الحوادث في زمن بوش هذا، لاحظوا أنه اتخذ من خصومته هذه لابن لادن وهو من السعودية سبباً وحجة ليستولي على العراق، وأنه كان لابن بوش هذا وهو معروف بجهله وضحالة ثقافته مجموعة من المتفلسفين، الذين اقنعوه بضرورة التخلص من صدام هذا الذي كان يحكم العراق، وبعد ذلك من الأسد الصغير الذي يحكم دمشق، وبذلك إن خلص من بغداد ودمشق فسوف يسقط نفط الشرق والعرب بين يديه كما تقطف الثمرة الناضجة على الأرض.
سقطت بغداد عاصمة الرشيد والمأمون والمعتصم في نفس السنة التي كان فيها ياسر عرفات يحاصره شارون في المقاطعة برام الله ويستعد لقتله والتخلص منه، ولكن في هذه الأثناء حضر وزير خارجية بوش الابن كولن باول إلى هذه المقاطعة لمقابلة عرفات ووجه إليه إنذاراً أخيراً، كما ذهب إلى دمشق عاصمة الأمويين لتقديم إنذار مماثل للرئيس السوري الابن بشار الأسد.
وكانت دلالة هذه الإنذارات للسوريين والفلسطينيين بعد سقوط بغداد، إن توازناً قوياً جديداً ينشأ في المنطقة في هذا الهلال الجغرافي الخصيب، الذي كان موضوع تقسيمات خارطة سايكس بيكو، وإنه حانت الفرصة الثانية لإعادة تركيبه على أسس جديدة وفق حسابات الإمبراطورية، هذه المرة من زاوية تفكيك الدول المركزية القائمة، وفرض الاستسلام التاريخي على الفلسطينيين، وبعد القضاء على الأيدلوجية الشيوعية وتفكيك الاتجاه السوفياتي في أوروبا، القضاء على أيدلوجيا القومية العروبية وتفكيك دولتها القومية في أهم ركيزتين لها في الشرق العربي، العراق وسورية.
لكن الحسابات الأميركية لم تكن تتوافق وحسابات البيدر كما يقال، وبدلاً من النصر السهل والحصاد بعد ذلك، فإن الإستراتيجية الأميركية تلقت ثلاث ضربات قاسمة لم تكن متوقعة، وجاءت من لدن ثلاث أطراف لم يكن ظهورها حاسماً من قبل في هذه الدراما التي نعيد تركيبها.
إن اللاعب الأول الذي سيبرز في مستهل هذا التحول الدراماتيكي في المشهد، إنما هو شخصية أبو مصعب الزرقاوي الذي سيظهر في الواقع كـ «رامبو الحقيقي»، وإن ظهور هذا الرجل في العراق، لم يكن حاسماً فقط في الحاق الهزيمة بالغزو الأميركي فيما بعد، وإنما بنفس القدر في أحداث التحويل التاريخي الذي يرافق غالباً صراع الأجيال داخل الحركات والأحزاب العقائدية والسياسية المقاتلة.
وبالرغم من نجاح الأمريكيين بعد ذلك بقتله، إلا انه يعود للزرقاوي التحول الراهن الذي حدث في السنوات الأخيرة بولادة وظهور تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» في سورية والعراق، حين تبنى الزرقاوي إستراتيجية تتجاوز نظرية بن لادن والظواهري القديمة، باستبدال العمليات الإرهابية العشوائية التي تهدف إلى الضغط على أميركا والغرب، لوقف دعمها لدول الاستبداد بالسيطرة الجغرافية على الأرض وإقامة نظام الخلافة، والانطلاق من هذه السيطرة والتثبت بالأرض إلى التمدد والتوسع في بلدان أخرى.
أما اللاعب الثاني وهو الذي سيتمثل فيما بعد لخلفاء الزرقاوي خصماً وعدواً آخر لا يقل منزلة عن العدو الأميركي المشترك لكليهما، فليس سوى زعيم حزب الله اللبناني والشيعي حسن نصر الله.
إن حسن نصر الله في تموز العام 2006 هو الذي سيحطم آخر أمل للأميركيين بإعادة تركيب ما أسموه الشرق الأوسط الجديد، مكملاً بذلك ولكن من دون تنسيق أو توافق ضربات الزرقاوي في العراق للجنود الأمريكيين حين وقفت كونداليزا رايس وزيرة خارجية بوش الابن تعتريها الصدمة والذهول أمام الانتصار الكاسح الذي حققه حزب الله في هذه الحرب الحاسمة على إسرائيل، وكانت هذه الحرب الأخيرة بالوكالة التي تقوم بها إسرائيل نيابة عن الأمريكيين.
أما الطرف الثالث في هذا المثلث الجديد الذي يرمز إليه الشيوخ الثلاث الإخوة ولكن الأعداء، فليس سوى حركة حماس ولكن هذه المرة السنية الإخوانية ولكن ليس السلفية، والتي استطاعت أن تدهش العالم بصمودها في حروب ثلاثة متواصلة مع إسرائيل، وكان لصمود الفلسطينيين ككل، السياسي والميداني في رام الله وغزة على حد سواء بمثابة الإلهام الذي سوف يذكي شرارة الثورة في الشرق العربي والمغرب على حد سواء، فيما بدا أنها لحظة الانفجار العظيم التي تسبق إعادة التشكل والخلق.
والذي حدث أن الشيوخ الثلاث وقفوا أمام هذه اللحظة باعتبارها نهاية التاريخ، الأمر الذي دفع خليفة بن لادن لدعم التوجه السلمي لهذه الثورات فيما يشبه أحداث مراجعة لمقاربته السابقة التي تقوم على العنف.
وكان في ظن حسن نصر الله وإيران أن خراج هذه «الصحوة الإسلامية» والشعبية الجديدة سوف يصب في عناق جديد بين الثورة الإسلامية في إيران وكل من محور المقاومة والممانعة السوري واللبناني ومصر الثورة العائدة من جديد وكذا ظنوا في حماس أن تحرير فلسطين بات مسألة وقت.
كيف انهارت أحلامهم إذن وتبددت فجأة وهكذا كما لو أن هذا الانهيار حدث من دون مقدمات ؟ إن الشقاق الأول سوف يحدث حينما تم استبدال شروط الثورة الموضوعية في سورية باصطناع هذه الشروط والظروف بإرادة دولية وإقليمية خارجية، فهنا في إعادة فتح باطن سورية الموطن الطبيعي لفكرة القومية العربية وإعادة تفكيك العراق إلى مكوناته الطائفية والإثنية والمذهبية القديمة، فإن فكرة أبو مصعب الزرقاوي عن الدولة الإسلامية في العراق والشام سوف تجد التربة الخصبة لولادتها وإذ كانت هذه الولادة والتحول صدمة حزب الله وإيران فإن الانقضاض على حكم الإخوان المسلمين في مصر بعد الثورة كان صدمة حماس الصدمة التي بان أثرها في الحرب الثالثة على غزة والتي صادف، الأمسُ، ذكراها الأول.
خرج حزب الله وحركة حماس من هذه التجربة كما لو أنهما الناجحان بشق الأنفس على الحافة في لوحة العلامات لنتائج امتحان التوجيهي، بينما أبو بكر البغدادي الخليفة على دولة يبلغ حجم مساحتها ربما أكبر من فرنسا، إنما هو الذي كان يوزع ضرباته على امتداد الإقليم كله تقريباً، ضرباته غير المسبوقة في قوتها واتساعها داخل ولايته الجديدة في سيناء وقبلها في تونس والسعودية والكويت وفي كل مكان تقريباً.
ولكن الذي يحدث اليوم هو الاستدراج الخامس والأخير في اكتمال الدائرة، وحيث ألوان الطيف خمسة وأنغام الموسيقى خمسة، ولكن التنوع عليهما لا حدود له. وبعد العراق وسورية واليمن وليبيا فإن الاستدراج الكبير اليوم هو مصر المحروسة، إذا كان ما بعد الثورات تأتي الثورات المضادة، وما بعد الثورات المضادة الحروب الأهلية، وكأنما هذه المتوالية هي قانون التاريخ الصارم للدخول إلى عتبة الدولة الوطنية الحديثة.