اطلس- زيدا ابو زياد
لم يعد الحديث عن مفاوضات بين إسرائيل وحركة حماس حول تثبيت الأمر الواقع في قطاع غزة مقتصرا على تسريبات واقتباسات من مصادر أجنبية وإنما بات أمرا عاديا يتناوله قياديون في «حماس» مع محاولات للادعاء بأنه ليس مفاوضات وأنه ليس بالهدنة طويلة الأجل التي تحدثت عنها المصادر الأجنبية في الشهور الماضية . فما الجديد؟
لقد كان الحديث يدور في الماضي عن مفاوضات بين حماس وإسرائيل بوساطة أوروبية للتوصل إلى هدنة طويلة الأجل لمدة تتراوح بين عشر الى خمسة عشر عاما ، تلتزم فيها حماس بضمان الالتزام التام بوقف إطلاق النار والصواريخ أو أية عمليات عسكرية من القطاع باتجاه إسرائيل ، وتقوم إسرائيل في المقابل برفع الحصار عن القطاع والسماح لحركة حماس بإقامة ميناء عائم ومطار يخضع لإشراف دولي. ومع أن حركة حماس كانت تتجنب الحديث في هذا الموضوع في الماضي إلا أن كل المؤشرات تفيد بأن تقدما ً ملحوظا ً قد تم وأن هذا الأمر قد أصبح في متناول اليد.
والطريف أن حركة حماس التي كانت تقول في الماضي أنها على استعداد لقبول " هدنة " طويلة الأجل مع إسرائيل دون الاعتراف بإسرائيل قد وجدت تخريجة جديدة لموضوع الهدنة فخرج علينا عدد من قادتها في الأيام الماضية يقولون بأن ليست هناك مفاوضات تجري بين حماس وإسرائيل وإنما
"اتصالات! " وأن ليس الهدف من هذه الاتصالات التوصل إلى هدنة وإنما «تثبيت» اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في القاهرة في العام الماضي. ومن حقنا أن نتساءل عما إذا كان هناك فرق على أرض الواقع بين «الهدنة طويلة الأجل» وبين «تثبيت» وقف إطلاق النار لفترة طويلة الأجل! أليس الأمر مجرد تلاعب بالكلمات والمسميات في حين أن الجوهر واحد؟
ومن حقنا أن نتساءل أيضا عن السيناريو الذي سيترتب على مثل هذا الاتفاق الذي ستلتزم حماس بموجبه بوقف كامل وتام لأية أنشطة مقاومة من حدود القطاع ضد إسرائيل وانشغالها ببناء الميناء والمطار وتوقع تدفق الأموال عليها لإعادة إعمار القطاع. ألا يعني هذا خروج غزة من دائرة المواجهة ، وانسلاخها عن الجسد الفلسطيني ومقايضة الضفة والقدس بدويلة قزمة في قطاع غزة ؟
لا أحد ينكر أن من حق شعبنا في القطاع أن يخرج من العزلة المفروضة عليه وأن تتاح له فرصة العيش الكريم وتنفس رياح الرخاء ولكن من حقنا أن نتساءل عن الثمن والتداعيات التي ستترتب على ما سيحدث إذا ما تم تنفيذ الاتفاق الذي يتحدثون عنه.
فغزة تعاني من دمار شامل نتيجة الحرب التي شنتها إسرائيل على القطاع وأدت إلى استشهاد أكثر من ألفين ومئتي مواطن معظمهم من الأطفال والنساء والمدنيين الذي لم يكن لهم أي دور في العمليات العسكرية أو المواجهة مع إسرائيل. والعالم بدأ يضيق ذرعا بالحصار المفروض على القطاع ، وبدأت تتعالى الأصوات التي تدعو إلى فك الحصار وإلى فرض المقاطعة على إسرائيل والمستوطنات ، وبدأت إمكانية مقاضاة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية تبدو جدية أكثر من أي وقت مضى ، وبدأت دائرة العزلة تضيق حول إسرائيل وخاصة بعد الانتخابات الأخيرة التي جاءت باليمين الاسرائيلي المتطرف إلى الحكم ، فهل هذا هو الوقت لإنقاذ إسرائيل وإخراجها من عزلتها وإجهاض التحرك الدولي ضدها وتضليل الرأي العام العالمي بأن كل شيء أصبح على ما يرام في القطاع وأن إسرائيل أصبحت دولة سلام وحسن جوار؟!
الاتفاق الذي يتحدثون عنه هو آخر مسمار في نعش القضية الفلسطينية وهو توقيع صك تنازل عن القدس والضفة وحق العودة ، وتكريس للاحتلال والضم والاستيطان مقابل منفعة مؤقتة توهم بأن قطاع غزة سيصبح هونغ كونغ الشرق الأوسط.
الاتفاق الذي يتحدثون عنه بمعزل عن منظمة التحرير وفي ظل الانقسام الذي بادرت إليه حركة حماس عام 2007 يثبت فشل قيادة كل من حركتي فتح وحماس في الحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية وإيثارهما للمصالح الفئوية والشخصية الضيقة على مصلحة الشعب وحقوقه الوطنية الثابتة ، وهو مؤشر على أن حماس ومن خلال السير في ركب التصالح المنفرد مع إسرائيل ربما تُستخدم أيضا كمخلب قط لضرب السلطة في رام الله وتقويضها لصالح التهام الضفة من قبل إسرائيل. ولا بد للمرء أن يأخذ بكل جدية التهديدات التي أطلقها قيادي بارز في حماس الأسبوع الماضي والتي قال فيها أن عناصر حماس في الضفة ستعمد إلى استهداف مقار وأفراد الأجهزة الأمنية في الضفة!
هذه التهديدات لا تأتي من فراغ ، وهي دون أدنى شك تنسجم مع سيناريو إقامة إمارة غزة تحت مسمى تثبيت وقف إطلاق النار ، وإلهاء شعبنا في القطاع بالمطار والميناء والإعمار والبناء والانفتاح على العالم ولن يلومه أحد إذا انشغل بذلك وفرح به بعد هذه السنين الطويلة من الحصار والتجويع والاضطهاد.
وليس من المستبعد أن تحاول إسرائيل وربما حماس توظيف ما يجري الآن من اتصالات للتوصل إلى صفقة تبادل للأسرى مقابل جثث الجنديين الاسرائيليين أورون شاؤل الذي قتل في الشجاعية وهدار جولدن الذي قتل في رفح والمدنيين الذين يقال أنهما اجتازا الحدود إلى غزة في ظروف غامضة ، لإقناع أهلنا في غزة بجدوى التوصل لاتفاق " تثبيت " وقف إطلاق النار.
وأيا كان الثمن الذي ستدفعه إسرائيل لقاء جثث الجنديين فإن علينا ألا ننسى الثمن الباهظ جدا ً الذي دفعناه مسبقا عند اختطاف جثث هؤلاء الجنديين فقد تم تدمير الشجاعية وقتل المئات من المواطنين بعضهم تحت ركام بيوتهم ، وأما في رفح وبعد اختطاف جثة هدار جولدن فقد قررت إسرائيل التحقق من أنه ليس على قيد الحياة لتقلل الثمن الذي يمكن أن تدفعه مقابل استرداد جثته فطبقت العملية المسماة " هانيبال " فقصفت رفح بأكثر من ألفي صاروخ من العيار الثقيل خلال يوم واحد أطلق عليه الأسرائيليون أنفسهم اسم " الجمعة السوداء" واعترفوا بتدمير أجزاء واسعة من مدينة رفح وقتل أكثر من مئة مدني .
الأيام والأسابيع القادمة حبلى بالأحداث ، وإذا لم يتم تدارك الموقف ووضع كل ما يجري في إطار العمل الوطني الموحد بعيدا عن انفراد أي فصيل أو طرف في اتخاذ قرارات والارتباط بالتزامات على حساب المصلحة الوطنية ، فإن علينا أن نقر بالفشل الذريع على مستوى القيادة في رام الله وغزة وأن نسلم بأننا لم نكن على مستوى المسؤولية الوطنية وأننا وضعنا بأيدينا المسمار الأخير في نعش الوطن وقلبه القدس.