اطلس- يدخل أنصار البيئة والناشطون في قضاياها بامتحان عسير في زمن الدم والصراعات المتصاعدة، ويتجلى هذا بوضوح في فلسطين منذ نكبتها، وما تعيشه اليوم دول الجوار من دمار وقتل وتخريب تحت مسميات مختلفة.
تتشابه مواصفات الامتحان العسير هذا في التكوين والتداعيات، وإن اختلفت التفاصيل الفرعية، أو تغّير اسم اللاعب الرئيس، لكن السؤال الصعب: كيف نتحدث عن البيئة في زمن الدم؟ والذي تتفرع عنه أسئلة أقل حدة، ولكنها بمجملها مؤلمة إلى حدٍ كبير.
سماء سوداء!
في البداية، وخلال اشتعال انتفاضة الحجارة عام 1987 في الضفة الغربية وغزة، كنتُ على مقاعد الدراسة الإعدادية (تغيرت إلى تسمية المرحلة الأساسية لاحقًا)، كانت السماء تأخذ دائمًا اللون الأسود، حين تُشعل الإطارات المطاطية التالفة. وقتئذ، انهالت الأسئلة في داخلي عن جدوى إحراق الإطارات في وجه الاحتلال. عرفت وربما كرّرت مقولة: ( الإطارات تخفي المقاومين عن جنود الاحتلال، وتعمي أبصارهم عنهم، فلا يصبحون هدفًا للقنص السهل). لكن بالتدريج بدأت أسال نفسي عن صحة هذا الاعتقاد، مع أن طلقات جنود الاحتلال تصبح أكثر خطورة في عشوائيتها، فلا يرى المنتفض القتلة وهم يصوبون بنادقهم، ويتحول كل شاب لهدف محتمل، كما أن الدخان الأسود سرعان ما يذهب مفعوله أدراج الرياح حين يلتف الجنود على الشبان من الخلف. وماذا عن الرياح لو تغير اتجاهها، فعاد الدخان الأسود ليرتد على الشبان ويشاركهم الهواء!
كانت، ولا زالت حتى اليوم- السحابة السوداء إحدى مكونات المجابهة مع المحتلين، وحتى في الاحتجاجات الداخلية الموجهة ضد الأمن المحلي، أو في الفعاليات المطلبية يجري إشعال الإطارات، لغير غاية، ولكن بتبرير مشابه.
بجوار الإطارات المشتعلة، ثمة غاز مسيل للدموع، وهذا يحول الشوارع والبيوت المجاورة لأماكن الصدام مع المحتلين إلى أرض محروقة، وهذا يعيد مرة أخرى طرح سؤال حول موقع البيئة في زمن القتل والتدمير والاحتلال والفتن الداخلية.
إطارات "الكاوتشك" أو "الكوشك" كما يختصرها البعض، ليست هي حجر الزاوية في طرح هذه المقالة، ولكنها المدخل لمثال قريب من الواقع يشاهده الجميع دائمًا، وهذا لا يعني إعادة ترتيب مصادر الدمار والتلويث لبيئتنا بفعل أسلحة محرمة دولية وذخائر حية، وأطنان من أسلحة الإبادة التي استخدمها الاحتلال ضد غزة في غير عدوان.
امتحان
هل يمكن لناشط بيئي أن يُصرّح أو يُلمّح ضد قلق بيئي في أوج الصدام مع المحتل أو القوى الداخلية المتصارعة؟ بالتأكيد: لا، ولن. لكن بوسعنا أن نعيد الكتابة عن الجانب البيئي في كل مناسبة، بعد أن تهدأ العاصفة قليلًا، فنذكّر بأن البيئة مضطهدة، وانتهاكها أو العدوان عليها لا يقل خطورة عن قتل الناس بدم بارد وتدمير المنازل.
في العادة، تسبب الصراعات في تغييرات مذهلة على شكل البيئة، فيجري تدمير الغطاء النباتي وحرقه، وتتعرض التربة لمستويات عالية من التلوث، وتحتاج عناصر البيئة لسنوات طويلة حتى تتعافى من آثار الأسلحة المحرمة دوليًا والمتفجرة والنووية.
كمثال، خلال عدوان الاحتلال على غزة الذي بدأ في 7 تموز 2014، فقد أدى إلى تدمير 15671 منزلًا، منها 2276 بشكل كلي، و13395 بشكل جزئي، إضافة إلى عشرات آلاف المنازل المتضررة بشكل طفيف، عدا عن تدمير منشآت صناعية، ومدارس، وجامعات، ومساجد، ومستشفيات، ومحطات توليد الكهرباء، ومضخات المياه والصرف الصحي، الأمر الذي خلّف ملايين الأطنان من الركام والردم. ووفق وزارة الأشغال العامة والإسكان خلّف ركامًا بلغ بين 3-4 ملايين طن، تحتاج إزالتها إلى 30 مليون دولار، وتستغرق بين 6 إلى 8 أشهر، في وقت تعتبر معدات الوزارة قديمة ومهترئة ولا تسد سوى 20% من الحجم الكلي للأنقاض.
وأيضًا، قصف الاحتلال 8 محطات لتنقية المياه يستفيد منها 70 ألف مواطن، وعطشت 10% من سكان غزة ( 1.8 مليون نسمة) بحصولهم على المياه مرة واحدة يومياً، بينما يغرقون في ظلام دامس، ولا تصلهم الكهرباء سوى 4 ساعات فقط في اليوم. تضرر كذلك نحو 35 ألف دونم من الأراضي الزراعية.
ووفق الأرقام الإسرائيلية نفسها، فقد أفرغ الاحتلال 5 آلاف طن متفجرات، وأطلق 43 ألف قذيفة مدفعية، و39 ألف قذيفة دبابة، و 4,8 مليون طلقة، واستعمل سلاح المدرعات 20 مليون لتر وقود، و50 مليون لتر للطائرات الحربية.
250 نزاعًا
منذ الحرب العالمية الثانية، وحتى عام 2014 ، حدث أكثر من 250 نزاعًا مسلحًا، معظمها في دول العالم الثالث. فيما راح خلال أقل من ستين سنة أكثر من 25 مليون إنسان في الحروب. وبلغ حجم الإنفاق العسكري عام 2002 فقط (794) مليار دولار، بمعدل يومي 2,2 مليار دولار، أي 91 مليون دولار كل ساعة.
يكفي فقط للبحث عن موقع البيئة في زمن الدم، أن نلتفت حولنا بعد النظر إلى البشر الذين يقتلون بصمت، لنشاهد الأرض المحروقة، والأشجار المستهدفة، والمباني المدمرة، والحقول التي زرعت بالألغام. ولا يعني هذا تقزيم وجع البشر وتحريف الأنظار عن جرائم التطهير العرقي، لكن يتصل بأن تحمل مأساتنا الإنسانية ودم البشرية النازف أبعادًا لبيئتنا التي تعرضت لدمار أيضًا، بكل الأسلحة، فأثّر ذلك على شجرها ونباتاتها وطيورها، وقبلها قضى على الإنسان الذي هو أساس إعمارها.
دمج
كأمثلة على الدمج بين البيئة والإنسان في زمن الدم، اعتدت خلال انتفاضة الحجارة توثيق الشهداء لحظة سماعي خبر رحيلهم. لم أكتف بسرد بلدانهم وأعمارهم وإصاباتهم، بل انتقلت إلى توثيق موجز لمدنهم وبلداتهم وما تشتهر به من مزروعات، وأسباب تسميتها. كنت أتوقف مطولاً عند بلدات: كفر رمّان، عنبتا، طولكرم، جنين، واد التفاح في الخليل، حي التفاح بغزة، زيتا، بتين. أتخيلها كبساتين مزروعة بأشجار تلتصق باسمها، ويُخيّل لي ما يحدثه الاحتلال من دمار فيها، فيقلع الأشجار ويحرق المزروعات، وتتحول لأرض سوداء، تنتظر المطر والحرية.
يمكن للإعلاميين أن يشيروا في سياق تغطيتهم للعدوان إلى البيئة، بعد أن يجري الحديث عن الإنسان. وبوسع الناشطين والمختصين البيئيين أن يسلطوا الضوء على تداعيات تدمير البيئة والإخلال بعناصرها بتبسيط، بعيدًا عن لغة علمية معقدة أو غير واضحة. وعليهم أن لا يؤجلوا الإشارة إلى محيطهم البيئي طويلًا في زمن الدم، فالبيئة تُصاب وتبكي وتتعرض للإرهاب أيضًا. ويحتاج أمر ترميمها وقتًا طويلاً، فهي أيضًا حياة يجري تدميرها بما فوقها وتحتها وأسفل منها.