اطلس- حسن الترابي (1932-2016) الذي ودعنا منذ أيام، لم يكن شخصا عابرا أو إنسانا عاديا ، ود.حسن الترابي الذي فارق الحياة الدنيا لم يفارق الدنيا لأنه وضع إرثا فكريا فلسفيا تعبويا علميا تجديديا استطاع به عبر مراحل حياته أن يحقق منه الكثير في إطار حراكه الجماهيري الاجتماعي المتواصل
في كافة أرجاء السودان وفي إطار إثراءاته الفكرية ومن خلال تنظيمه الوطني (حزب الميثاق الاسلامي ثم عبر حزب المؤتمر الوطني الحاكم، ثم بعد الخلاف أسس عام 2001 حزب المؤتمر الشعبي)، وفي إطار تنظيمه العالمي الذي جمع فيه العرب والمسلمين كثيرا.
لم يكتفي حسن الترابي أن يجعل من الفكرة إطارا يلتف حوله المريدون كما فعلت جماعات واحزاب غيره في السودان وخارجها، فيتسلم مفاتيح شيخ الطريقة ويقفل عليهم الباب ليتبعوا أو يسبحوا ضمن مساحات فهمه أو فكره فقط، لذلك خرج من "الإخوان المسلمين"، وان احتفظ معهم وغيرهم من الأحزاب بعلاقات جيدة، بل جعل من فكره دستورا للحرية لمن آمن به أو عارضه من المسلمين أو غير المسلمين، و تلقى المعارضات برحابة للجميع للمخالف في إطار سعيه الحثيث نحو الحرية في مجالات تعدد السُبُل والمجتمع والسعي، والاعتقاد والفكر والتعبير.
لم يكتفي حسن الترابي أن يجعل من سجنه صومعة للتعبد أو ديرا للتأمل أو مسجدا للصلاة فقط، وإنما اجتهد وواصل في معتزله عملية التفكر والبحث والصراع والكتابة فأنتج من سجنه كتبا عزيزة كما أنتج في منفاه أو اقامته الجبرية.
ما كان الفكر لينعزل عند الترابي بين دفتي كتاب فقط أو عبر مناظرة أو في ندوات أتقن فتها، وإنما هو ارتباط بتطبيق واقعي خاض فيه نضالا أوليا في الجامعة ضمن ما رآه حينها يقترب من فكرته الفسيحة أي عبر (الاخوان المسلمين) ولما ضاق الإطار جعل من تنظيمه الذي صنعه لاحقا فضاء رحبا فخرج لينفد بجلده منتصرا لوعيه وعقله من صلابة القديم المتآكل الى نضارة الجديد المتفتح.
جعل الترابي من الحزب (التنظيم) مختبرا لأفكاره الاشراقية، إذ طبق فيه قيم الحرية والمساواة والعدالة والانفتاح والتسامح وحوار الأديان، وهو الذي كان من أوائل المفكرين الإسلاميين في الكثير من أفكار التجديد مما يحسب له، والذي منه بإعطاء المرأة حق الولاية الكبرى في القضاء والإمارة ندا للرجل.
خاض الترابي نضالا وجهادا سياسيا بلا هوادة ضد الاستبداد والاستكبار والظلم وانعدام العدالة وضد الفساد، وضد أدعياء الإسلام في بلاده فاضطهد بعد أن كان في إطار السلطة في السودان قد فتح الأبواب العريضة للبلد من خلال علاقاته وأسلوبه ومسارات الجمع التي باشرها حتى جعل من مؤتمر الأحزاب الإسلامية فضاء كبيرا أخاف النظام الحاكم رغم مشاركته فيه فأسقطوه.
حسن الترابي العالم بأصول الدين والتوحيد والفكر السياسي ألف العديد من الكتب الثمينة، وصنع بنفسه بل نحت مصطلحات جديدة ميزت تراثه الفكري والسياسي عمل عبرها أن يتميز عن الموروث البالي وعن الغرب ، رغم اقترابه في الكثير من أفكاره من تجديدية الغرب دون أن ينسى أصالة حضارتنا العربية الاسلامية.
رحم الله الشيخ العلامة رحمة غامرة وأسكنه فسيح الجنان فلقد كان علامة ومجتهدا وقدم للأمة والبشرية تراثَ فكر نهضوي مستنير مكّن الناس من تلمس نور الطريق وحقيقة الإسلام والانسان والكون وفتح بفهمه المرحاب بوابة واسعة أخرجت الموروث من ضيق التقليد إلى فضاء السعة التي تميز حقيقة الدين القويم رحم الله الشيح الجليل ونفع بعلمه الغزير الأمة.