اطلس- رغم زخم وسائل الاتصال الحديث وكثرة وسائل الاعلام بمختلف اشكالها، لدرجة أنها قادرة على مواكبة أي حدث بشكل اسرع من السابق، إلا أن كثيراً من معلوماتها وتحليلاتها، ينقصها البحث والدقة والخلفية، فتُصبحُ ناقلة وسطحية اكثر مما يجب، والساعات الخمس (أحداث الانقلاب العسكري) في تركيا دليلٌ آخر على ذلك، حيث انطبق عليها المثل القائل: "ما اكثرها وما أقل بركتها"!.
ليُطرح السؤال الأكبر: ماذا حدث؟، وما الذي أفشل الإنقلاب في الحقيقة؟، وهل الشعب بالفعل من أفشله ام "الدولة العميقة"؟، وهل الانقلاب كبير أم صغير كما روج له الإعلام؟.
حسناً، سأحاول بدء الإجابة على السؤال الأخير: مما لا شك فيه أن الإنقلاب كبيرٌ وهذا ما أكدته مصادر الإتحاد الأوربي في الساعة الأولى لمحاولة الإنقلاب، حيث قالت إنها "تبدو كبيرة ويشرف عليها ضباط كبار"، وهو ما اتضح لاحقاً عندما أُعلن أن 5 جنرالات و30 ضابطاً عدا عن الجنود المشاركين في هذه المحاولة التي باءت بالفشل.
وحتماً الإعلام، وبعض الأصوات ابتعدت عن الواقع والمنطق كثيراً عندما روّجت بوعي وبدون وعي بأن الإنقلاب ليس كبيراً والدليل العدد المحدود من الجنرالات والجنود، لا، ليس هكذا يُصنف أي انقلاب في الدُنيا، فمن نفذ انقلاب الضباط الأحرار منتصف ليلة 23 يوليو تموز عام 1952، نحو 20 ضابطاً برتب صغيرة ولم يكونوا معروفين، باستثناء اللواء محمد نجيب الذي اعطى ثورة الضباط على النظام الملكي آنذاك زخماً وأهمية كبيرين.
وفي تاريخ الانقلابات العسكرية في كل الدُنيا، كان عدد من الضباط والعسكر ينفذون الإنقلاب بعد التخطيط وبدء ساعة الصفر للإنطلاق، فيسيطرون على المؤسسات السيادية في الدولة، ثم يوجهون البيان الأول عبر الإذاعة والتلفزيون الرسمي يعلنون فيه السيطرة على الحكم وينتهي الأمر، هذه ابجديات أي انقلاب.
وليس بالضرورة أن يقوم بالانقلاب كل الضباط والمؤسسة العسكرية، هذا تحليل سطحي جداً، ولذلك فإن محاولة الإنقلاب الفاشلة على اردوغان، كانت كبيرة وضمت جنرالات وضباطا لهم اسماؤهم ومواقعهم المؤثرة.
مقولة إن الإنقلاب ليس كبيراً، هذا غير صحيح بل هذه سذاجة مطلقة، فهذا ليس سبباً في فشله، ما الذي أفشله اذاً؟
واستمراراً في محاولتي الإجابة على هذا التساؤل، فإن ما روجه الإعلام التقليدي وكذلك الجديد حول احباط الشعب لهذه المحاولة، نُصرةً للديمقراطية، فإن هذا ليس سبباً في الإفشال وانما عامل مساعد أنجح احباطها، خاصة وأنه ليس كل من شاهدناه مُرتدياً الزي المدني هو مدني بالضرورة!.
باعتقادي، وحسب المعلومات المتطابقة، فإن خروج الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ليُلقي كلمةً للشعب خلال الساعة الأولى لمحاولة الإنقلاب لم يكن بقرار منه، بل هو قرار "الدولة العميقة" بمن فيها رئيس جهاز الإستخبارات الذي حث اردوغان على فعل ذلك والطلب من الجماهير للنزول إلى الشارع والتصدي لـ"المنقلبين"، باعتبار أن هذه الكلمة عبر وسيلة اتصال حديثة ستُنهي الإنقلاب وتحسم التصدي له، إذاً (الفيس تايم) كان في مواجهة مع (التلفزيون الرسمي الذي أذاع بيان المنقلبين).
إن "الدولة العميقة" التي تعاظمت في تركيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بما تشمل من اسماء وجهات نافذة ومؤثرة غير معروفة تضم إستراتيجيين وإستخبارات وامن سري وصُناع قرار غير مرئيين بهدف استعادة المجد العُثماني لتركيا وتعزيز دورها في النظام الإقليمي الجديد الذي يتم صياغته، حيث يتكون من 3 قوى بالمنطقة هي (اسرائيل وايران وتركيا).
نعم، الدولة العميقة هي من أنقذت "السلطان"، رحمة وحمايةً لحلم "السلطنة"، هذه الدولة التي دفعت بأردوغان للتطبيع مع اسرائيل والإعتذار لروسيا، والاستعداد لإعادة العلاقات الى طبيعتها مع سوريا والعراق، لأنها شعرت مُؤخراً أن خطراً يتعاظم على هذا الحُلم، واردوغان الإسلامي هو جزء من هذه المنظومة، فهو تعهد منذ وصوله لسدة الحكم بالعمل على هذا الحُلم تحت مظلة "الدستور العَلماني".
إن النجاحات التي حققها اردوغان طيلة 14 عاماً في تركيا تناغمت مع أهداف "الدولة العميقة" وهذا ما جعله في الحكم حتى الآن، وهو ما حماه في أول محاولة انقلاب عليه، بالإضافة إلى هيكلة مؤسسات الدولة والتغييرات التي ضمنت عدم تبعية جهاز "الإستخبارات" للجيش كما جرت عليه العادة في كل الدول، بل كان الإستخبارات جهازاً مُراقباً ومُهذباً للجيش من خلال تمتعه بقوة موازية.
إن محاولة الإنقلاب كانت مُفاجئة بالنسبة لجهاز الإستخبارات فهو لم يكن على علم مُسبق بنوايا الانقلابيين، هو فشل كاد أن يسقط الرئيس التركي، وكانت المحاولة في طريقها للنجاح في الساعة الاولى، وهو ما أكده اسلاميون موالون للرئيس التركي، ولكن تمكن الدولة العميقة والاستخبارات بسرعة فائقة من الحصول على معلومات مهمة، ساهمت في "فك شيفرة" الإنقلابيين وتحديد مواقعهم، وكشف مخططهم، وما رافق ذلك من تدمير طائرات كانت إحداها تهم لإطلاق صاروخ على المكان المتواجد فيه ارودغان حينها، ونزول اعداد كبيرة من الأمن السري والإستخبارات والشرطة باللباس المدني للتصدي للعسكريين المنقلبين واعتقالهم، إضافة إلى أعداد لا بأس بها من الاطياف الشعبية التي نزلت للشارع تلبيةً لدعوة اردوغان.
لم يكن كل ما هو مدني مدنياً يا اعزاء، حتى لو لم يملك سلاحاً نارياً.
والسؤال الذي يطرحُ نفسه هُنا، من الذي ساعد الإستخبارات التركية والدولة العميقة على امتلاك "المعلومات الأمنية المهمة" التي تدفقت لجهاز الاستخبارات وجعلته يعمل بموجبها "لفرط المسبحة"، لتكون "المعلومة" اقوى من الهيلوكابتر والمدفعية؟!.
وفقاً للغة المصالح والعلاقات الدولية، وبعيداً عن العاطفة، فإن فك الشيفرة كان بناء على معلومات لا يُستبعد ان تكون مستقاة من خارج حدود تركيا في الساعة الاولى.
إن محاولة الإنقلاب على اردوغان كانت بمثابة صفعة من دولة عُظمى بسبب الخطوات والمواقف الأخيرة التي اتخذها اردوغان بشكل متسارع لحماية حُلم استعادة المجد العُماني وتلافي خطر مُحدق على بلده، الأمر الذي أزعج تلك الدولة على ما يبدو، وهنا اقصد أمريكيا التي صعّد اردوغان من لهجته الضمنية ضدها في كلمة الإنتصار على الإنقلاب عندما دعاها إلى تسليم فتح الله غولن بصفته مهندس الانقلاب، أسوة بما تقوم به انقرة حينما تسلم واشنطن اشخاصا متهمين بالارهاب.
ولعل السؤال هنا، هل من المنطق أن تكون أمريكيا غير راضية عن العلاقة التركية الاسرائيلية، طبعاً ممكن، استذكر هنا المفاوضات السرية بين النظام السوري واسرائيل في عامي 2009 و2011 عندما وصلت لمرحلة متقدمة. فإن أمريكيا التي اكتشفت هذه المفاوضات لاحقاً قامت بافشالها لأنها كانت تتم دون ان يكون لها يد فيها، وهذا ما أكده لي الكاتب الصحفي داخل الخط الأخضر نظير مجلي، وكذلك قومي مقرب من الرئيس السوري بشار الأسد.
إذاً رغم العلاقة الإستراتيجية بين امريكيا واسرائيل فهذا لا يعني توافقهما على كل شيء خاصة بالملفات الإقليمية، ولعل الملف النووي الإيراني مثال آخر على ذلك... فهل نشهد في المقابل تقارباً تركياً روسياً قوياً في الفترة القادمة؟
لعل الأيام والأشهر ستجيبنا على ذلك، ما دامت السياسة لا تقوم على قاعدة ثابتة ولا معادلة "1+1=2".