اطلس- هناك نوع من الرجال ترتاح إليه ويجد قبولا لديك عندما تلتقيه لأول مرة، مصداقا لقول الحبيب المصطفى (ص): «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
فإذا تعاملت معه ازددت له حبا وتقديرا واحتراما.. كان عمر التلمسانى من هذه النوعية من الرجال العظام، روحا وبساطة وتواضعا وزهدا.. ويرجع حرصى على تقديم هذه الشخصية للسادة القراء، إلى ما تحلت به من قيم نبيلة، أخلاقية وإيمانية وإنسانية رفيعة.. كنت أود أن يطلع عليها الإخوان وأن يتعلموا منها ويقتدوا بها، ويقتبسوا من نورها ليضيئوا به عتمة الطريق، لكن- للأسف- هم لا يقرأون، وهذه هى إحدى خطاياهم الكبرى. قال لى بعضهم إنهم لا يقرأون صحيفة «المصرى اليوم»، قلت معقبا: ولا أى صحيفة أخرى، فبينكم وبين القراءة بعد المشرقين.. أيام أن كنت نائبا للمرشد «عاكف»، كتبت عشرات المقالات حول الدعوة والتربية، كانت تُبث على موقع «إخوان أون لاين».. وعندما سألت أحد مسؤولى المناطق بالجيزة: هل تقرأون مقالى الأسبوعى؟ أجاب قائلا: لا.. ولا حتى مقال المرشد(!)، كنت فى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى أشرف على تقديم «حديث الثلاثاء» فى مسجد أبى الجود بمدينة أسيوط، وذلك فى الفترة بين صلاتى المغرب والعشاء.. وفى أوائل مارس ١٩٨٠، دعوت الأستاذ عمر التلمسانى لإلقاء «الحديث»، إلا أن القطار الذى كان يستقله من القاهرة تعطل لبضع ساعات، وتم تأجيل «الحديث» لليوم التالى.. كان مرافقا للأستاذ عمر من القاهرة الحاج حسنى عبدالباقى، والمهندس حامد القصبى، وجاء من منفلوط السيد محمد حامد أبوالنصر.. وكان المكتب الإدارى للإخوان بأسيوط قد ارتأى أن يستضاف الأستاذ عمر ومرافقاه خلال الفترة التى سوف يقضونها فى بيتى بدلا من أحد الفنادق.. وفى قمة انشغالى بالزيارة لم أنتبه إلى أن زوجتى كانت حاملا فى أيامها الأخيرة، لكن الله سلم.. فى صبيحة الأربعاء بدأ الضيوف برنامجهم بعد صلاة الفجر مباشرة، بأن انتحى كل واحد منهم جانبا، وخلا بمصحفه ليقرأ ورده القرآنى.. وفى الدقائق القليلة قبل الذهاب إلى مدارسهن، نادى الأستاذ عمر على بناتى الأربع الصغيرات ليتحدث إليهن بكل العاطفة والحنو.. كان من المفترض أن يكون الإفطار فى السادسة صباحا، حيث عادة الأستاذ عمر، لكنه تأخر إلى الثامنة، وظل الرجل يتندر بذلك لسنوات طويلة.. أعددنا للضيف ومرافقيه برنامجا مكثفا للزيارات واللقاءات.. وعند المغرب كان موعدنا مع «حديث الثلاثاء» المؤجل.. كان حديثه موفقا، تناول فيه طبيعة الدعوة ومراحلها، والسياسة العامة للجماعة، والظروف التى تمر بها فى تلك الفترة.. كان هدف الرجل هو التأكيد على أن الجماعة تعمل فى العلن، وليس هناك ما تخفيه.. والحقيقة أن الحديث كان موجها للإخوان قبل غيرهم، إذ لا يخفى على لبيب أن هناك من الإخوان من يميلون بطبيعتهم إلى العمل السرى.. بعدها توجهنا إلى منزلى، حيث كان لقاء مع مسؤولى الإخوان فى المناطق والشعب، تبعه لقاء آخر مع الشباب.. سأله أحدهم: أستاذ عمر.. من الملاحظ أن إيقاع الحركة بطىء للغاية.. نريد من فضيلتك معدلا أكثر سرعة وأعلى «سخونة»! قال الأستاذ عمر: هل هناك هاتف يعمل بدون حرارة؟ أجاب الشاب: لا. قال الأستاذ عمر: نريد حرارة معتدلة، لا حرارة تؤدى إلى حريق أو «شياط» فى الأسلاك.. ثم قال: لا يوجد هاتف بدون أرقام، وهذه منوط بها ضبط وتحديد وجهة الاتصال.. هكذا الجماعة يجب أن تضبط حركتها وتحدد وجهتها فى هذه المرحلة أو تلك.. فى تلك الليلة جاء السيد محمد عثمان إسماعيل، محافظ أسيوط الأسبق، لتوديعه.. وفى فجر الخميس، غادر الأستاذ عمر ومرافقاه إلى سوهاج، ثم إلى قنا، فأسوان.. بعدها بأقل من يومين، أى فى مساء السبت، شعرت زوجتى بآلام الوضع.. لم نكن ندرى لحظتها أنها حامل فى توأم.. نقلناها إلى مستشفى المبرة، حيث وضعت عمر (نسبة إلى الأستاذ عمر) وعبدالرحمن.. كانت هذه الولادة هى الخامسة، لكنها كانت- بفضل الله- الأيسر والأسرع.
* نقلا عن "المصري اليوم"