اطلس- «قام رجال المقاومة العرب بهجوم بزجاجات المولوتوف الحارقة على قوة عسكرية صهيونية ليلة أمس في شارع عكا صفد في الجلــــيل المحتل، وتمكن المقاومون من الانسحاب إلى قواعدهم بسلام، هذا وكعادته لم يعترف العدو بعدد الإصابات التي وقعت في صفوفه».
الطريف في الخبر الذي بثته إذاعة دمشق الرسمية أنني كنت متورطا في هذه الحادثة البطولية، وتمكنت من إلقاء القبض على رجل المقاومة الذي ألقى الزجاجة الحارقة في تلك الليلة، وصار يرجوني بأن أطلق سراحه، وأن أستر عليه، كي لا يخرب بيته.
كان هذا قبل حوالي خمسة عشر عاما، كنت مشاركا في حفل زفاف في قاعة مفتوحة بمحاذاة شارع عكا صفد. في أوج السهرة وعندما كان النسوة وسط حلبة الرقص بفساتين السهرة القابلة جدا للاشتعال، فجأة رأيت شعلة نار تأتي من الظلام وتسقط على مسافة قصيرة من حلبة الرقص وقريبة جدا مني أنا وزوجتي، هبت نيران وقفز الجميع مبتعدين عنها.
لم أفكر كثيرا، عدوت باتجاه جدار المتنزه من حيث ألقيت الزجاجة، وقفزت عن السور في الظلام، رأيت شبحا يركض في السهل المحروث، فركضت وراءه بعزيمة وإصرار، صرت أقترب منه وألاحظ أنه ينقل ساقيه بصعوبة ويترنح حتى سمعت لهاثه وأيقنت بأنه ثمل وهذا طمأنني بقدرتي على التغلب عليه. لم يعد يفصل بيننا سوى خطوتين، فالتفت وراءه وعرفني وراح يرجوني بأن أتركه بحاله، وعرفته واسترخيت وفترت همتي كي أتيح له الهرب، لأنني فهمت فورا قصته ودوافعه، إلا أنه سقط ولم يعد قادرا على الركض، ووصل بعض شبان من ورائي وحاولوا ضربه، ولكنني تمكنت من تخليصه من أيدي الغاضبين.
كان العريس نجم السهرة على علاقة بشقيقة الشاب، وكان قد وعدها بالزواج وظهر معها في مناسبات كثيرة كمخطوبين، وصار يدخل بيت ذويها كواحد من البيت وتذهب إلى بيت ذويه، وفجأة انتقل الشاب إلى فتاة أخرى وترك الأولى التي صار الجميع يعرفون علاقتها الحميمة به، وهكذا انتظر شقيقها فرصة لينتقم فكانت ليلة الزفاف. بعد تدخل الأوادم لم تقدّم ضد الشاب شكوى رسمية إلى الشرطة تعاطفا مع حالته ودوافعه، شرط أن يكون هذا انتقامه الأخير من العريس.
كانت الإذاعة الصهيونية العربية قد علمت بالعملية «البطولية» في المساء ذاته، وأعلنت في نشرتها آخر الليل عن إلقاء زجاجة حارقة على قاعة أفراح في إحدى قرى الشمال على شارع عكا صفد دون وقوع إصابات. في صبيحة اليوم التالي في نشرة أخبار الجمهورية العربية السورية، جاء الخبر عن العملية البطولية ضد العدو.
بلا شك أن من سمع هذا الخبر في سوريا قد يبني في خياله معركة ضارية وإخفاء ضحايا العدو وغيرها من بهلوانيات الإعلام الذي يعود أسلوبه إلى ما قبل هزيمة حزيران/يونيو، الذي انتقده كثيرون أبرزهم الراحل صادق جلال العظم في كتابه «نقد الهزيمة». طبعا هذا لا يلغي وجود حوادث مشابهة خصوصا في فترات المد الانتفاضي، ولكن الكذب وفبركة الأخبار لم تخدم قضية يوما، خصوصا عندما تتحول إلى نهج إعلامي وإيديولوجيا تعتمد الكذب والتزوير.
هذا الإعلام الذي يتصدر الإعلام العربي في تفاهته وكذبه وتزويره للحقائق، لم ير عيبا واحدا في النظام وفي رئيسه على مدار ما يقارب الخمسة عقود، بينما العالم يفضح رؤساء حكومات وقادة عسكريين بشبهات الرشاوى والاعتداءات الجنسية والفساد، ويحاكمهم في دول ليس فيها من الفساد واستغلال المناصب والاعتداءات الجنسية واحد في المئة مما يوجد في العالم العربي، خصوصا في سوريا، التي احتلت المكان 129 في مؤشر الفساد العالمي عام 2011. هذا الإعلام هو الذي جعل من الرئيس إلها ومن تماثيله مقدسات، ومن المعارضين عملاء لقوى أجنبية ومن الثوار إرهابيين. هذا الإعلام الرخيص تجاهل مسيرات ومظاهرات سلمية شارك فيها مئات الآلاف من السوريين في بداية الثورة ووصفها بأعمال تخريب يقوم بها بضع عشرات من المحرضين، هذا الإعلام جزء لا يتجزأ من الجهاز القمعي للنظام ومهمته شيطنة المعارضين، وأسهم إسهاما كبيرا بشيطنة المسلمين عموما على مستوى العالم لتبرير قمعه للثورة.
هذا الإعلام زعم أن هناك من يعطي للمتظاهرين ساندويتشات ومخدرات وعشرة دولارات ليشجعهم على التظاهر في حمص. هذا الإعلام يتجاهل آلام ملايين السوريين ويطبّل ويزمّر للانتصارات، ولكنه يتجاهل عدم إطلاق طلقة نار واحدة منذ أربعة عقود باتجاه الأرض السورية المحتلة، التي لو بذل لتحريرها عُشر التضحيات التي بذلها لأجل كرسي السلطة لكسب احترام وتأييد العالم وحررها، ولكن إذا حضر الكرسي عمي البصر.
كنت أبتسم عندما أذكر الحادثة البطولية التي تحدث عنها على شارع عكا صفد، وكنت أنظر إليها من باب رفع المعنويات، لكن ما دام أنه يجعل من حادثة غرام وانتقام عملية فدائية فمن أين لي أن أعلم صحة أو كذب أخباره الأخرى. هذا الإعلام ما زال كما كان قبل هزيمة حزيران، بل صار أسوأ، فالكذب صار يحمل طابعا إيديولوجيا بعدما كان يحمل طابع السذاجة، صار جوهره التحريض الواعي العميق بهدف شيطنة أبناء الوطن من المعارضين وإحالة كل تذمر من النظام بالتطرف الإسلامي حتى لو كان المعارض بوذيا.
يتناقل الناس على صفحات التواصل لقاء أجرته الإخبارية التابعة للنظام مع سيدة عجوز خارجة من شرق حلب فقدت ثلاثة من أبنائها، قالت العجوز إن الطائرات قتلت اثنين من أبنائها وقتل الثالث برصاصة طائشة من جاره، وأقسمت بالله أنهما لم يكونا مسلحين، إلا أن المذيعة ألحت عليها محاولة فرض رواية النظام على الضحايا بأنهما كانا في منطقة فيها مسلحون، فبدت المذيعة كمراسلة قناة المستوطنين التي تبرر هدم حي كامل في قطاع غزة على من فيه لأن فيه مسلحين.
الأم العجوز تقسم من جديد بأن المنطقة لم يكن فيها مسلحون، فيتدخل رجل كما يبدو خشي من عواقب إنكار رواية النظام لـ»يعترف» نعم كانا في منطقة فيها مسلحون.