يركز عمل الاحتلال منذ ذلك الوقت على ما هو تحت الأرض، في محاولة لفهم طبيعة المكان المعتاد لاختباء حسن نصر الله. ويحاول جيش الاحتلال فك الحزام الأمني المحيط بنصر الله-والذي أصبح أكثر صرامة من عام الى اخر-وذلك من خلال المعلومات الاستخبارية المباشرة، او من خلال عملاء.
ومع اشتعال حرب لبنان الثانية، قام عدد من كبار الضباط في جيش الاحتلال، بتقديم "خطة عمل خاصة" الى وزير جيش الاحتلال آنذاك، عمير بيرتس. هدفت الخطة الى تدمير صواريخ حزب الله التي كانت مخبأة في منازل السكان الشيعة في جنوب لبنان، وفق الكاتب.
وكانت هيئة الأركان العامة لجيش الاحتلال قلقة من أن يؤدي الهجوم إلى سقوط العديد من الضحايا المدنيين في لبنان، وفق الكاتب. وفي المحصلة، قرر الوزير بيرتس الموافقة على العملية، التي أطلق عليها جيش الاحتلال اسم "ليلة الفجر". وفي غضون (34) دقيقة، هاجم سلاح جو الاحتلال نظام الاتصال الخاص بحزب الله، وكانت الهجمات دقيقة للغاية، بفضل جودة المعلومات ودقتها التي جمعتها استخبارات الاحتلال.
وعلى الرغم من النجاح الذي قال جيش الاحتلال انه انجزه، سعى بيرتس، وعلى مدار أيام الحرب، الى الاتيان بخطوات وضربات إضافية هنا وهناك ضد حزب الله، عسى ان تصطاد احداها حسن نصر الله، وفق الكاتب. وفي احدى المناقشات لملف نصر الله لدى الاستخبارات، طلب بيرتس من الاستخبارات، وبطريقة مستفزة، قتل نصر الله، فقال "أطلب منكم بحث موضوع اغتيال الشخص الذي اعتاد ان يرسل لكم ولمواطني دولة إسرائيل رسائله وتهديداته من المخبأ".
اما ما اثار دهشة الجميع، فهو ان بيرتس، وموظفيه في وزراة الجيش، لم يجدوا ملفا استخباريا منظما عن نصر الله، ووجدوا ان المعلومات التي من شأنها أن تؤدي إلى معرفة مكان اختباء نصر الله، غير متوفرة لدى الاستخبارات.
وفي الحال، سارع بيرتس الى سد الفجوة المعلوماتية تلك، وأوعز بإنشاء غرفة عمليات خاصة بحسن نصر الله. وأولى مهام تلك الغرفة كانت ربط مختلف الهيئات المعلوماتية المختلفة في أجهزة الاستخبارات مع بعضها البعض، الموساد والاستخبارات العسكرية وحتى الشين بيت. وكان الهدف هو جلب تلك المعلومة التي من شأنها أن تقود صواريخ سلاح جو الاحتلال إلى نصر الله، وغيره من الكوادر الكبار في التنظيم الشيعي، الذي لم يتوقف عن إطلاق الصواريخ على إسرائيل حتى آخر يوم في الحرب.
وقد سجلت العديد من الحالات التي قامت فيها طائرات سلاح جو الاحتلال خلال الحرب بإلقاء قنابل ثقيلة قادرة على اختراق المخابئ في الضاحية الجنوبية في بيروت، حيث يختبئ نصر الله على ما يبدو، وفق الكاتب. غير ان الهدف لم يتحقق، رغم الدمار الكبير الذي اوقعه القصف.
ووضعت تعليقات وزير جيش الاحتلال، في تلك الاجتماعات، المشكلة على الطاولة وبشكل جدي، بعد الثغرات الاستخبارية التي تم الكشف عنها في حرب لبنان الثانية. وتقرر إجراء عدد من التغييرات من أجل تركيز الجهد على كبار قيادات حزب الله، وخاصة حسن نصر الله. وتضمن أحد القرارات إنشاء شعبة خاصة بالعمليات، تتبع شعبة الاستخبارات، لوضع الأولويات والعمليات على مدار السنة وفق خطة عمل سنوية منتظمة.
فضلا عن ذلك، تم جلب قنابل دقيقة تصل المخابئ عبر اختراق الخرسانة المسلحة، من أجل الوصول إلى المواقع المحصنة على وجه الخصوص، حتى وان تعلق الأمر بعدد كبير من الطوابق تحت الأرض، وفق الكاتب.
وبالتالي، اقتنى جيش الاحتلال نوعين من الأسلحة التي تدل على مدى أولوية الاهداف بالنسبة الى جيش الاحتلال، وهي: قنابل لمهاجمة المنشآت النووية تحت الأرض في إيران، وقنابل للقضاء على كبار القيادات في حزب الله.
وعلى الصعيد اللبناني، تمحور الهدف منذ حرب لبنان الثانية، على اغتيال نصر الله، الذي يضايق إسرائيل بشكل دائم من خلال خطاباته والدعاية التي تستهدف الجمهور الإسرائيلي بشكل مباشر. وفي هذا السياق، قال رئيس اركان جيش الاحتلال، غادي إيزنكوت، الذي حمل صدمات حرب لبنان الثانية على كاهله، في مقابلة خاصة اواخر العام 2017، أن "نصر الله هو اول هدف مشروع للتصفية".
غير انه يتوجب على إيزنكوت ان يعرف ان قدرة الاحتلال على تحقيق هذا الهدف مرتبطة قبل كل شيء بجمع معلومات استخبارية عن الأمين العام لحزب الله، وغيره من كوادر الحزب. وقد تم تصفية بعضهم في العقد الأخير من خلال الأعمال الإسرائيلية السرية.
وقال ضابط كبير في جيش الاحتلال، ان قرار قتل نصر الله غير مُختَلَف عليه، ولكن الامر يتعلق بكيفية القيام بذلك، وفي أقرب فرصة. وقد أثبتت إسرائيل على مدى عقود أنها قادرة على مراقبة وتتبع كبار الشخصيات والتخلص منها، وفق مصطلح الكاتب. وتشير التجربة الى ان القائمة الطويلة للشخصيات التي تمت تصفيتها، استندت على نشاط واسع النطاق قامت به أفرع الاستخبارات المختلفة في شتى المجالات: العناصر البشرية، طرق التواصل المختلفة، وتجميع المعلومات، ...وغيرها من الوسائل.
يهدف البحث الى الوصول الى نصر الله من خلال طريقتين، وفق الكاتب: البحث عن المكان الذي يقضي فيه نصر الله اوقاته الروتينية، والأماكن التي يمكن أن يختبئ فيها الأمين العام في حالات الطوارئ، كي يسهل كشفه اثناء التنقل بينهما. وفي حال معرفتهما، قد تفتعل إسرائيل ظرفا طارئا كي تجبره على الخروج من مخبئه الاعتيادي الى مخبأ الطوارئ، مما يمكنها منه في الطريق بينهما، وفق الكاتب.
وكان هناك مثال كلاسيكي على اغتيال مسؤول كبير، في شهر تشرين الثاني من العام 2012، وهي عملية اغتيال أحمد الجعبري، قائد الجناح العسكري لحماس في قطاع غزة، من خلال صاروخ أصاب سيارته، مما أدى الى مقتله. وعلى الرغم من المراقبة الدقيقة للجعبري لفترة طويلة، فقد استغرق الأمر عدة أيام لتحديد مكانه. وعندما تم الكشف عنه، طلب من قادة العملية اختيار الوقت الأنسب للضربة.
وتُذَكّر الاستخبارات الإسرائيلية فريقها بان نصر الله وصل الى موقع الأمين العام لحزب الله بعد اغتيال سلفه عباس الموسوي. وأن المراقبة الاستخبارية لقائد بحجم نصر الله تختلف تماما عن عملية اغتيال قائد ميداني مثل عماد مغنية، رئيس الجناح العسكري لحزب الله، والذي اغتيل في العام 2008، في قلب العاصمة السورية دمشق.
وتدرك الاستخبارات الإسرائيلية ان عملية المراقبة الوثيقة لشخصية مثل نصر الله تتطلب قدرات خاصة وحساسية عالية جدا، وعالما خاصا من الذكاء، وموارد كبيرة جدا. وعلى الجانب الاخر، يدرك الأمين العام حساسية إسرائيل تجاهه والرغبة الجامحة للوصول اليه، عبر الدوائر الأقرب منه ربما. فهو داهية وكابوس مزعج لإسرائيل، وعندما يتحدث، لا يفعل ذلك الا من وراء شاشة، وبين العشرات من حراس الأمن المتيقظين في دائرة الصفر من حوله، أو انه يخاطب الناس من خلال نظام الدائرة المغلقة.
وباعتبار انه يدرك نجاحات الاستخبارات الإسرائيلية، فإن الحزام الأمني حول نصر الله صعب وصارم جدا وحساس تجاه إمكانية تسريب معلومات عنه، خاصة خلال الفترات الحساسة. كان سلاح جو الاحتلال قد قتل، في العام 1992، زعيم حزب الله السابق، عباس الموسوي. ولم يكن أحد يعرف في ذلك الوقت أن مكان الموسوي سيمتلئ بزعيم كاريزمي أكثر بكثير، يدعى حسن نصر الله، الهدف الدائم للاحتلال.
ترجمة: ناصر العيسة، عن: موقع "واللا"