كانت دولة الاحتلال تتظاهر أمام الرأي العالمي عبر وسائل إعلامها بخشيتها على حال البيئة ومصير الغلاف الجوي و"طبقة الأوزون"، في الوقت الذي تُثني فيه على أداء قناصة جيشها وهم يزهقون بلا رحمة دماء مئات المتظاهرين السلميين على الحدود.
يقرُّ خبراء بيئيون ونشطاء فلسطينيون بأن الدخان الأسود الناجم عن إحراق إطارات السيارات هو عدو للبيئة، لكنهم ينتقدون تباكي دولة الاحتلال على الصحة العامة، في حين أنها لا تتوقف عبر آلتها العسكرية التدميرية أو حصارها المستمر منذ 12 عامًا عن استهداف كل مجالات الحياة سواء البرية أو البحرية في القطاع.
ويشارك عشرات آلاف الفلسطينيين في فعاليات وتجمعات سلمية للمطالبة بحق العودة وإنهاء الحصار، تتركز على بُعد 700 متر من الحدود بين قطاع غزة ودولة الاحتلال الإسرائيلي، وقد بدأت يوم 30 مارس/ آذار الماضي، تزامنًا مع إحيائهم الذكرى الـ42 ليوم الأرض الفلسطيني.
ويشدد القائمون على الفعاليات أنها سلمية ولن تنجر إلى أي وسائل نضالية عنيفة، وصولا إلى ذروة الفعاليات يوم 15 أيار/ مايو الحالي، الذي يوافق الذكرى الـ70 للنكبة الفلسطينية.
لكن في مقابل ذلك تستخدم قوات الاحتلال الإسرائيلي المتوارية خلف تلال رملية وأبراج عسكرية حصينة قرب الحدود، قوة مفرطة ضد المتظاهرين.
وأمام ذلك لم يجد الفلسطينيون بُداً من التفكير بوسائل احتجاج سلمية بسيطة ومنها إشعال آلاف الإطارات المطاطية لتمويه قناصة جيش الاحتلال بينما أوجد آخرون حلًا بسيطًا للقضاء على قنابل الغاز الدخانية باستخدام كمامات من البصل الأخضر، ودلاء بلاستيكية فارغة، وكلها نالت صدى واسعًا في وسائل الإعلام المحلية والدولية.
وسعت دولة الاحتلال لتشويه حراك المتظاهرين من خلال اتهامهم باستخدام وسائل غير بيئية تهدد الصحة العامة.
وكتب المسؤول عن الدبلوماسية الرقمية بالعربية في وزارة الخارجية الإسرائيلية جونان جوناثان على حسابه على تويتر، إن حماس التي تسيطر على قطاع غزة تحرص على التحريض للإضرار بالغلاف البيئي وحرق الكاوتشوك في حين أن أهل غزة سيكونون هم الضحية الأبرز لهذه الخطوة.
بينما دعا منسق أنشطة الحكومة الإسرائيلية في مناطق السلطة، يوآف بولي مردخاي، منظمة الصحة العالمية إلى التدخل الفوري لوقف حرق الإطارات. وقال مردخاي: "هذا حدث بيئي خطير يضر بصحة السكان ويتسبب في تلوث لم يسبق له مثيل".
الإطارات كوسيلة مقاومة
استلهم النشطاء فكرة إشعال إطارات السيارات بكميات كبيرة من حادثة قتل جنود الاحتلال للشاب عبد الفتاح عبد النبي (19 عامًا) أثناء هروبه من رصاص الاحتلال الاسرائيلي وهو يحمل إطارًا مطاطيًا في فعاليات الجمعة الأولى من مسيرة العودة.
لذلك يحرص الشاب محمد عابد (22 عامًا) منذ ذاك التاريخ على تجميع إطارات السيارات وإشعالها مع عشرات الشبان الآخرين، ويؤكد أن جيش الاحتلال الإسرائيلي مطالب بالتوقف عن استهدافهم وقتلهم بدمٍ بارد قبل أن يتباكى على البيئة.
ويقول إن دوافعهم في استخدام وسائل للاحتماء من الرصاص الإسرائيلي حتى وإن كانت غير بيئية؛ مبررة في ظل حالات القتل المتعمدة من جانب الاحتلال.
القمع الإسرائيلي الوحشي
وذكرت وزارة الصحة الفلسطينية بغزة أن 44 فلسطينيا قضوا شهداء من بينهم 5 أطفال وأصيب نحو 7 آلاف منذ بدء مسيرات العودة في 30 آذار/مارس وحتى 30 نيسان/أبريل الماضي، مشيرة إلى أن هذه الأرقام سببت عجزًا دوائيًا هو الاكبر منذ 11 سنة بعد نفاذ 50% من الادوية والمستهلكات الطبية الاساسية في المشافي والمراكز الصحية لا سيما المتعلقة بالطوارئ.
وأفاد الطاقم الطبي لمنظمة أطباء بلا حدود والذي زار غزة قبل أيام، أن الجرحى يعانون من إصابات مدمرة تكون معقدة للغاية في علاجها. ويؤكد الأطباء أن الإصابات ستترك لدى عدد كبير من الجرحى إعاقات بدنية خطيرة وطويلة الأجل.
وذكروا أن الغالبية العظمى من المرضى -معظمهم من الشباب، ولكن أيضا بعض النساء والأطفال- لديهم جروح شديدة بشكل غير عادي في الأطراف السفلية.
ولاحظت الفرق الطبية أن الإصابات تشمل مستوى تدمير شديد للعظام والأنسجة الرخوة، وجروح كبيرة يمكن أن تكون بحجم قبضة اليد.
وإلى جانب الرصاص المتفجر كانت حالات تشنج غريبة تصل إلى المستشفيات ناجمة عن استنشاق الغاز المسيل للدموع الذي يطلقه جنود الاحتلال بكثافة.
وذكر الناطق باسم وزارة الصحة في قطاع غزة أشرف القدرة أنّ الوزارة لم تعرف طبيعة الغاز المستخدم خاصة أن الطواقم الطبية لاحظت آثاراً جانبية غريبة على المصابين بالاختناق كالتقيئ، ورفع نسبة ضربات القلب لديهم، وإصابة بعضهم بتشنجات عصبية.
ويرصد محمد الهسي، المسعف الميداني ومدير مركز إسعاف خانيونس في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، إصابة المتظاهرين "بحالات غريبة" عند استنشاقهم الغاز المسيل للدموع.
ويقول الهسي: "كنا نتعامل مع حالات تقتصر الإصابة فيها على حدوث حرقان فقط، لكن الغاز الجديد يصيب الإنسان بحالة غريبة تبدأ بالشعور بالارتخاء فجأة، حتى مع استنشاق كميات قليلة من الغاز".
ويضيف الهسي أن بعض الحالات التي تعرضت لكميات استنشاق كبيرة جدا أصيبت بحالات تشنج غير طبيعية واستدعى نقلها إلى المستشفيات.
ابتكارات غزيّة مقاوِمة
لأجل ذلك انضوى أحمد الوحيدي (19 عامًا) تحت مظلّة خليّة شبابيّة أطلقت على نفسها "وحدة مكافحة الغاز"، تتولى مهمة تحجيم تأثير مفعول قنابل الغاز الدخانية التي تطلقها قوات الاحتلال الإسرائيلي على أفواج المتظاهرين شرق مدينة خان يونس في جنوب قطاع غزة.
ولجأ الوحيدي ورفاقه إلى فكرة الاستعانة بـ"دلاء بلاستيكية فارغة"، لكمر أي قنبلة دخانية لحظة سقوطها على الأرض.
ويقول "بعد إطفاء قنبلة الغاز بكمرها بالدلو الفارغ، يجري التعامل مع بعض المصابين بوضع أوراق مرشوشة بعطر الكولونيا للتخفيف من حالة احتقان الأنف وعدم القدرة على التنفس".
وكانت دراسة أمريكية نُشرت نهاية العام الماضي كشفت أن استخدام جيش الاحتلال الإسرائيلي المستمر للغاز المسيل للدموع يدمر الصحتين الجسدية والنفسية للفلسطينيين، ولاسيما النساء والأطفال والمسنين.
وأوضحت الدراسة، التي أجراها باحثون في جامعة كاليفورنيا بيركلي الأمريكية، أن الآثار الجسدية للغاز المسيل للدموع على الفلسطينيين، صغارًا وكبارًا، تمثلت في: فقدان الوعي، والإجهاض، وصعوبات في التنفس، بما فيها الربو والسعال، والدوار، والطفح الجلدي، والألم الشديد، والتهاب الجلد التحسسي، والصداع، والتهيج العصبي، والصدمة الحادة من إصابات الأوعية، وغيرها.
في هذه الأثناء، يُتوقع أن تستقبل مراكز الرعاية الطبية في قطاع غزة أعدادًا إضافية من المصابين مع إصرار المتظاهرين على مواصلة حراكهم السلمي حتى يبلغ ذروته يوم الخامس عشر من الشهر الحالي في ذكرى يوم النكبة.
وكان الطفل الفلسطيني محمد بسام عياش تحول إلى أيقونة للنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، بعد ابتكاره أسلوبا غريبا لتحمل قنابل الغاز، حيث ظهر في صورة يرتدي كمامة بدائية يضع بداخلها عرقا من البصل الأخضر؛ بهدف تخفيف حدة الغاز المسيل للدموع.
البيئة ولكن!
وإن كان الخبير البيئي والمهندس الزراعي نزار الوحيدي عارض لجوء البعض إلى إشعال إطارات السيارات لكنه اتهم في المقابل سلطات الاحتلال بتعمد قتل الحياة البيئية في غزة من خلال وضع السياج الفاصل مع قطاع غزة إذ يمنع تنقل الحيوانات البرية بين الأحراش الزراعية، في وقت قامت فيه ببناء سدود تمنع دخول مياه الأودية إلى غزة وهو ما فاقم من تلوث الخزان الجوفي المصدر الوحيد للمياه في غزة.
وأشار الوحيدي كذلك إلى قيام سلطات الاحتلال خلال السنوات الماضية بتجريف مئات الدونمات الزراعية من البساتين قرب الحدود فضلًا عن استمرار حركة الآليات العسكرية وهو ما أدى إلى قتل أعداد كبيرة من الكائنات الحية.
كذلك نبّه إلى قيام سلطات الاحتلال في كل عام تقريبا برش الأسمدة والمبيدات السامة على الأراضي الزراعية الحدودية ما تسبب بتلف مساحات كبيرة منها فضلاً عن استخدام قنابل مشعة من بينها اليورانيوم والدايم خلال الحروب الثلاثة الماضية على غزة.
أيضا أشار الوحيدي إلى أن دولة الاحتلال استباحت الحياة المائية في بحر قطاع غزة بعدما اضطرت بلديات القطاع في أوقات كثيرة إلى تصريف المياه العادمة غير المعالجة إلى البحر بسبب نقص إمدادات الكهرباء والطاقة.
نصائح وإرشادات
من جانبه، قدم الخبير في الشأن البيئي الدكتور أحمد حلس سلسلة نصائح لتجنب خطورة وسمية الدخان المنبعث من إحراق إطارات السيارات وللتقليل من الخسائر البشرية والآثار السلبية على الإنسان والبيئة قدر الإمكان "وذلك في ظل عدم استجابة الناس لعدم إشعالها".
ومن تلك النصائح كما يقول حلس عدم الوقوف أو الاقتراب من الحريق أو التجمع باتجاه الريح قبل وأثناء اشتعال الاطارات والابتعاد قدر الامكان عن الدخان المتصاعد.
وتابع أنه يمكنك تحديد اتجاه الريح باستخدام اصبع السبابة وغمره بالماء أو باللعاب ورفعه عاليا، مبينًا أن الجانب الذي ستشعر بالبرودة نحوه هو نفسه اتجاه الريح.
ودعا جميع السكان القريبين من مناطق احراق الاطارات فيها إلى اخلاء منازلهم بعد احكام اغلاقها وذلك قبل عملية الحرق، وعدم العودة إليها إلا بعد التأكد من انتهاء الدخان السام.
وشدّد حلس على وجوب قيام كافة السكان في المناطق الحدودية بإحكام اغلاق خزانات المياه الخاصة بهم وتغطية الاطعمة بشكل كامل حتى لا تنتقل اليها تلك السموم المتصاعدة وبالتالي تصل إلى أجساد الأطفال.
وتابع: "قد يتغير اتجاه الريح في أي لحظة، في حال تعرضك للدخان بشكل مفاجئ عليك الانبطاح على الأرض أسفل الدخان، واستخدام قطعة قماش قطنية مبللة والتنفس من خلالها عبر الأنف".
ولفت النظر إلى ضرورة عدم تعريض الاطفال والحوامل و كبار السن و كافة مرضى الجهاز التنفسي بأي شكل من الأشكال لذلك الدخان مطلقا.
وبين أنه في حال الاصابة بالحروق أو استنشاق الدخان المنبعث، هناك العديد من النصائح والإرشادات وعلى رأسها إخلاء المصاب فورا من مكان الحادث وتعريضه للهواء النقي وتهدئته والحفاظ على وضع الإفاقة لديه حتى يصل الدعم الطبي.
ونبه إلى أن 70% من المناطق الحدودية هي أراضٍ زراعية، وعلى المزارعين الذين تعرضت أراضيهم لكمية كبيرة من الدخان الهابط على تربتهم بريها بشكل مكثّف وبعد ذلك تسميدها قبل زراعتها (غسل التربة)، كمحاولة للتخفيف من حجم التسمم.
وقال إن طبقات التربة تحاول بعد ذلك فلترة المياه ومنعها من الوصول الى المياه الجوفية بما فيها من سموم.
خاص "آفاق البيئة والتنمية"