اطلس- - وسط الخلافات المشوبة بالتوتر والقائمة حاليا بين موسكو وواشنطن، دعا الرئيس الروسي
فلاديمير بوتين نظيره الأمريكي دونالد ترامب إلى استئناف المحادثات المباشرة من أجل مناقشة القضايا الملحة المعنية بالأجندات الثنائية والدولية.
وفي معرض إشارته إلى أن البلدين "وصلا إلى حضيض علاقاتهما" خلال مؤتمره الصحفي السنوي يوم الخميس، أكد بوتين مجدداً استعداده للحوار وقال إن الوقت قد حان لكي يفكر الجانبان بذهن صاف ويبدآن في رأب الصدع في علاقاتهما الثنائية.
ورغم بادرة حسن النية من جانب بوتين، إلا أن الخبراء يقولون إنه من الصعب استئناف الاجتماعات الثنائية رفيعة المستوى حيث ستشهد العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة "تدهوراً تدريجياً" في المستقبل المنظور.
-- جهود غير مجدية
قال بوتين "لقد قلت مراراً أننا مستعدون، ونعتقد أن هناك قضايا يجب أن نناقشها معا".
وأضاف "مهما حدث، علينا بناء علاقات ثنائية ونحن مستعدون لذلك. وسنبدأ في القيام بذلك بمجرد أن يكون الطرف المقابل مستعداً".
وكشخص أبدى استعداداً للاجتماع مرتين في شهر واحد، تبدو حماسة بوتين مفهومة. فبعد إلغاء اجتماعه مع ترامب في باريس في أوائل نوفمبر، تبددت فرصة أخرى قبل أسابيع عندما ألغى الرئيس الأمريكي، وهو في طريقه إلى بوينس آيرس، اجتماعهما المقرر على هامش قمة مجموعة العشرين التي عقدت في العاصمة الأرجنتينية.
وقد كان القرار الذي جاء في اللحظة الأخيرة مفاجئا للكثيرين، حيث كان من المتوقع على نطاق واسع أن يكون هذا الاجتماع متابعة لقمة عقدت في العاصمة الفنلندية هلسنكي في مايو، وهي الاجتماع الرسمي الوحيد بين بوتين وترامب والذي توصلا فيه إلى توافق محدود.
ووصف أليكسي بوغدانوف، الأستاذ المساعد في قسم الدراسات الأمريكية بجامعة سانت بطرسبرغ الحكومية، وصف قمة هلسنكي بأنها "رمز للتطلعات غير المنجزة للعام".
وأشار إلى أن الولايات المتحدة عقدت العزم على استخدام القمة للتأثير على السياسات الروسية، بينما أعربت روسيا عن رغبتها في تخفيف ضغوط العقوبات من خلال الاجتماع. وتم الابقاء على هذين الموقفين في الاتصالات اللاحقة التي أجراها المسؤولون الروس والأمريكيون والتي قضت في نهاية المطاف على الأساس الذي وُضع في قمة هلسنكي.
وقال بوغدانوف "ومن هذا المنطلق، فإن رفض ترامب الاجتماع مع بوتين خلال قمة مجموعة العشرين يدل بوضوح على قناعة متزايدة من جانب الولايات المتحدة بأن الحوار غير فعال لتطوير العلاقات مع روسيا بطريقة بناءة".
ومن ناحية أخرى، واجه ترامب انتقادات قاسية على الصعيد الداخلي بعد قمة هلسنكي، حيث اُتهم بتلبية مطالب روسية معينة، ما أضر بسمعته السياسية. لذلك، تبين أن الاجتماع مع بوتين لم يفشل في تحقيق مزايا كبيرة فحسب، بل كان له عيوب واضحة.
وقال فيكتور أوليفيتش الخبير البارز في المركز الروسي للدراسات السياسية الفعلية، وهو مركز بحثي، إن "العوامل التي أدت إلى إلغاء الاجتماعين في باريس وبوينس آيريس لم تتلاشى، بل تفاقمت مع مرور الوقت".
-- تنامي العداء
شهدت الأشهر الماضية توترات متصاعدة بين روسيا والولايات المتحدة مع استمرار لعبة العقوبات والمواجهة العسكرية.
وفي أعقاب هجوم بغاز الأعصاب على جاسوس روسي سابق في بريطانيا في مارس، طردت الدولتان أعدادا كبيرة من الموظفين الدبلوماسيين لبعضهما البعض، وفرضت واشنطن جولات عدة من العقوبات الاقتصادية على موسكو.
علاوة على ذلك، أجرت روسيا والولايات المتحدة، وحلفاؤهما، تدريبات عسكرية واسعة النطاق على مدار العام فيما تراشقتا الاتهامات بانتهاك المناطق الحدودية وتهديد الأمن الإقليمي.
وقال بوغدانوف إن "الوضع الحالي في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة يكمن أفضل وصف له في عبارة (التدهور التدريجي). فالأساس غير المستدام لهذه العلاقات والذي تشكل خلال الثلاثين عاما الماضية يتم تدميره بشكل مستمر".
والآن، تواجه العلاقات الثنائية المتوترة تحديات أكبر. فبعد انتخابات التجديد النصفي الأمريكية وانتصار الديمقراطيين في مجلس النواب، أصبحت قضية العلاقات مع روسيا تتسبب في توجيه انتقادات متزايدة لإدارة ترامب.
كما أعرب بوتين عن قلقه إزاء التأثير الذي أحدثه تغيير السلطة في الكونجرس الأمريكي على آفاق الحوار المباشر بين القادة.
وذكر بوتين في المؤتمر الصحفي "يمكننا توقع توجيه انتقادات جديدة للرئيس الحالي بنسبة مؤكدة تصل إلى قرابة 100 في المائة. ولا أعلم ما إذا كان سيكون قادراً على بدء حوار مباشر مع روسيا فى ظل هذه الظروف".
وقال بوغدانوف إن هذا يفرض على ترامب مواصلة "التمسك بخط متشدد ضد روسيا" للحيلولة دون تزايد قوة منتقديه ومعارضيه.
الأسوأ من ذلك أن مواطنة روسية تدعى ماريا بوتينا اعترفت في الأسبوع الماضي بالتآمر مع آخرين للتأثير على السياسة الأمريكية في الفترة ما بين عامي 2015 و2018، على الرغم من اتهام موسكو لواشنطن بإرغامها على التعاون مع المحققين مقابل حكم بالسجن لمدة أقصر.
يمكن أن يمثل اعتراف بوتينا بالذنب دليلاً على ما يتردد منذ فترة طويلة عن التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، وهو أمر من المتوقع أن يؤدي إلى تزايد المشاعر العدائية بين الجانبين.
كما قالت واشنطن مرارا إن هناك عقوبات جديدة في الطريق.
-- آفاق قاتمة
إن مأزق العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة متجذر بعمق في خلافاتهما المستعصية على التوفيق حول مجموعة كاملة من القضايا، حيث فشلتا في وضع مبادئ أساسية للعلاقات، هكذا قال الخبراء.
وتشمل هذه القضايا البنيان المالي العالمي، ونظام التجارة العالمي، والاستقرار الاستراتيجي الدولي، وسوريا، وإيران، وأوكرانيا، وما إلى ذلك.
وقال بوغدانوف "إن العقوبات لا تعتمد في الواقع على أحداث محددة... لكنها تعكس الافتقار إلى فهم مشترك للمشاكل الأمنية على جميع المستويات- الوطنية والإقليمية والعالمية".
وعلى وجه الخصوص، أظهرت قرارات الولايات المتحدة بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني ومعاهدة القوات النووية متوسطة المدى أظهرت بالضبط الأساليب المختلفة للبلدين في ضمان الأمن الإقليمي، حسبما قال بوغدانوف.
إن روسيا والولايات المتحدة، اللتان تنظران إلى بعضهما بعضا كمنافسين جيوسياسيين، تتجهان تقريبا إلى مواصلة ديناميات المواجهة على المدى الطويل.
وأشار الخبراء إلى أن واشنطن حريصة على الحفاظ على النظام العالمي المتمركز حول الولايات المتحدة واتخذت سلسلة كاملة من الخطوات لعزل روسيا، بينما لا تستطيع موسكو قبول الهيمنة الأمريكية في العالم.
وذكر دميتري ترينين مدير مركز كارنيجي بموسكو أن "العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا اليوم، بالنسبة للمستقبل المنظور، يمكن أن تكون أخطر العلاقات، لأن الولايات المتحدة لن تتنازل وروسيا لن تقبل بالهزيمة".
وقال أوليفيتش "يجب ألا نتوقع أي تغييرات كبيرة في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة في المستقبل القريب. هذه العلاقة لن تشهد سوى التدهور".
-- فرص جديدة
وإدراكا جيدا منها للوضع المتفاقم، بدأت روسيا في إتباع إجراءات مضادة متعددة الجوانب.
ففي مواجهة الضغوط المتزايدة للعقوبات، أطلقت روسيا خطة لفك الارتباط المالي لاقتصادها بالدولار، بما في ذلك تخفيض حيازاتها من الديون الأمريكية وتشجيع استخدام الروبل الروسي في بعض المدفوعات الدولية.
كما ذكر بوتين اليوم السبت، أن روسيا تطور أسلحة جديدة للحفاظ على التوازن الإستراتيجي والدفاع عن أمنها ردا على تهديد نووي متزايد ناجم عن الانسحاب الأمريكي من معاهدات الحد من التسلح.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تدهور العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة يدفع موسكو إلى تطوير العلاقات مع دول أخرى مثل الصين واليابان والهند.
فقد وصلت الشراكة الاستراتيجية بين موسكو وبكين إلى أعلى مستوى لها في التاريخ كما تبذل روسيا جهوداً نشطة لتسهيل توقيع معاهدة سلام مع اليابان.
وحذر خبراء روس من أن تصاعد الخلافات بين روسيا والولايات المتحدة قد يؤثر على السياسة الدولية بشكل عام.
وقال أوليفيتش إن "الصراعات بين القوى الكبرى تؤثر على المعيشة في الدول الأقل تأثيرا والأقل قوة".
غير أن الخبراء أشاروا إلى أن المأزق الذي تشهده العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة لن يخرج عن السيطرة.
وقال ترينين "لا يعتقد أي من الطرفين أنه يمكن أن يكسب شيئا من خلال الدخول في حرب ... ولا توجد نية لدى أي من البلدين لمهاجمة الطرف الآخر".