اطلس-كشف التسريب الاخير بشأن زيادة رواتب الوزراء شدة الاحتقان في الشارع الفلسطيني. وبعيدا عن الهجوم والتجريح الذي ساد خطاب العديد ممن انتقدوا قرار زيادة الرواتب، وبعيدا عن الشخصنة وتصفية الحسابات التي كانت مكشوفة في كتابات العديد ممن انتقدوا القرار واتخذوه فرصة للانتقام من خصومهم بدعوى محاربة الفساد، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
أولا) من الواضح ان هناك إشكالية جوهرية في عملية صناعة القرارات العامة، خاصة في مؤسسة الرئاسة، وهي المؤسسة الأهم والأكثر قوة وتأثيرا في نظامنا السياسي. وقد ظهر ذلك جليا من خلال توقيع الرئيس على عدد من القرارات والقوانين والمراسيم التي يشوبها خلل قانوني او دستوري بيّن، بحيث تم التراجع عن بعضها لاحقا أو ابطال بعضها من قبل القضاء. الامر الذي يظهر ان القرارات لا تمر بعملية ضبط للجودة والمراجعة الكافية، او أنه لا يتم التشاور مع المرجعيات والجهات ذات العلاقة بشأنها قبل اصدارها، أو ان اشخاصا متنفذين يستطيعون الاستحصال على قرارات تخدم مصالحهم الضيقة على حساب المصلحة العام، ما يفتح المجال لوقوع أخطاء او صدور قرارات تصطدم بالرأي العام، وهو ما شهدناه بكثرة خلال الفترة الماضية.
ثانيا) القرار الذي اخذ قبل سنتين بشأن رفع الرواتب لم يتم الكشف عنه إلا مؤخرا ومن خلال تسريب لا يعرف مصدره. ففي ظل غياب قانون حق الوصول إلى المعلومات، وانتشار ثقافة التكم على القرارات، أصبح مصدر المعلومات الأساسي للمواطن إما التسريبات أو من خلال مواقع فضائحية باتت تلقى روجا، ضمن بيئة خصبة للإشاعات، وغير صحية لتداول المعلومات ومناقشة القرارات العامة بطريقة رصينة بعيدا عن الشعبوية والتهييج والتجريح. هذا يتطلب سرعة اصدار قانون حق الوصول إلى المعلومات، ونشر قرارات الحكومة، وتفعيل الرقابة المجتمعية من خلال قنوات صحيحة، وتوضيح آلية اتخاذ القرارات العامة بما فيها القوانين والمراسيم.
ثالثا) هناك خلل واضح على المستويين الافقي والعمودي في هيكل الرواتب العامة. فعلى المستوى العمودي، هناك فجوة كبيرة في سلم الرواتب بين الفئات العليا والفئات الاقل، تتمثل في أن 30% من موظفي السلطة يتقاضون 70% من فاتورة الرواتب، والعكس صحيح (أي 70% من موظفي السلطة يحصلون على ما لا يتجاوز 30% من فاتورة الرواتب). وعلى المستوى الافقي لا توجد عدالة في الرواتب بين مؤسسات السلطة المختلفة. ففي حين أن رواتب بعض المؤسسات الرسمية تعتبر أعلى من القطاع الخاص وتنافس المؤسسات الدولية، يجد اقرانهم في الوزرات والمؤسسات الأخرى الذين يقومون بوظائف مماثلة، أن رواتبهم تتآكل ولا تلبي الحد الأدنى من العيش الكريم لهم ولأسرهم. على سبيل المثال، يتقاضى موظف إداري في احدى المؤسسات العامة راتبا يصل حوالي 1800 دولار شهرياً في حين ان نظيره الذي يقوم بذات العمل في الوزرات يتقاضى 1800 شيكل. عدا عن أن سلم الرواتب في بعض الوظائف (مثل رواتب القضاة والوزراء) لم تتم مراجعته بما يواكب التضخم وغلاء المعيشة منذ اكثر من 15 سنة. وهذا يتطلب مراجعة شاملة لهيكل الرواتب على مستوى الوزارات والمؤسسات العامة بما يحقق الانصاف للجميع.
رابعا) كشفت الازمة أيضا عن زيادة حساسية المواطن تجاه موضوع المال العام، والاهتمام بتكافؤ الفرص ولم يعد المواطن يتسامح مع اية انحرافات في هذا المجال. وقد أظهر استطلاع رأي حديث أعدته مؤسسة أمان أن المواطن الفلسطيني بات يضع موضوع الفساد على سلم القضايا التي تؤرقه في حين أنه في السابق كان الاحتلال والوضع الاقتصادي يتصدران سلم أولويات المواطن. ويبدو أن هناك حالة عامة (بحاجة الى دراسة وتحليل) من الانكفاء على الذات والانشغال بوضعنا الداخلي على حساب اهتمامنا بالقضية الوطنية.
لكن موضوع زيادة رواتب الوزراء وما اثاره من نقد شديد، قد يكون أعراض لازمة أعمق تعصف بالنظام السياسي الفلسطيني. فالسلطة الفلسطينية أنشئت بموجب اتفاق أوسلو ضمن مشروع ورؤية سياسية كان من المفروض ان تفضي إلى دولة مستقلة. وبعد فشل مشروع أوسلو السياسي، وفي غياب انتخابات عامة يستطيع المواطن من خلالها محاسبة المسؤولين، واختيار الأشخاص والبرامج التي تمثله، أخذ الشعور بالغضب والمرارة والاحتقان يتراكم في صدور المواطنين، الذين باتوا يعبرون عن ذلك من خلال السخرية والتهكم والهجوم الشخصي القاسي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بطريقة في أغلبها غير بناءة ولا تؤدي إلا إلى مزيد من اليأس والإحباط وتضرب الثقة بجميع المؤسسات العامة. واذا استمرت حالة الاحتقان، دون وجود خطوات جدية لإشراك المواطنين من خلال الانتخابات، أو باتجاه إدخال إصلاحات جوهرية على آلية صنع القرار، قد ينتقل التعبير الغاضب من وسائل التواصل الى الشارع، لتستكمل حلقة تدمير الذات.