والحقيقة، أيها ألأحبة، أن أظافرنا في طفولتنا لم تكن ناعمة على الإطلاق، فمنذ ما قبل الإحتلال الإسرائيلي عام 1967 ، أي منذ الحقبة الأردنية والحقبة المصرية، فقد عشنا في طفولتنا ظروف العمل السري، فقد كان والدي ووالدتي رحمها الله ومعظم عائلتنا من طرف ابناء العمومة ومن طرف الأخوال يعملون في العمل السري في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي الشتات، ولم يكن لأي من الأولاد هذه الأظافر الناعمة، وأذكر مثلا أن المحامية الأستاذة أمل سعادة ولدت في السجن.
وكثيرا ما كان يتوجه والدي رحمه الله الى الوحدة الصحية الوحيدة في بيتنا المستأجر ليدير المذياع (الراديو) ويسمع "صوت العرب من القاهرة" مطلع ستينات القرن المنصرم، فقد كان الإعتقاد السائد أن الوحدة الصحية هي المكان الوحيد في البيت التي تسلم دوما من زرع جهاز تصنت عند مداهمة ذلك البيت من قبل مخابرات أي نظام عربي.
وحقيقة الحال تفيد وعلى إمتداد التاريخ، سواء أمشيت الحيط الحيط أو لم تمش، فإن مخابرات الدول لك بالمرصاد، شئت أم أبيت، إذ يجب أن يبقى مجرد ذكر إسمها مصدرا للرعب لأي مواطن يحلم فقط بمقومات الحد الأدنى من العيش الكريم.
في التاريخ المعاصر، ليس البعيد، سمعنا الأهوال المتعلقة بقصص مناضلين تعذبوا وقضوا في أقبية التحقيق لدى "الجستابو الألماني" والـ " كي جي بي السوفياتي" والـ " سي أي أيه الأمريكي" وغيرها من أجهزة الأمن القومي في هذا البلد أو ذاك. هناك أشخاص لاقوا حتفهم وهم أقرب الى نظام هذا البلد أو ذاك من حبل الوريد، فقط لمجرد أنهم أقرباء لمعارضين سياسيين أو لأنهم مجرد جيران لثوري لم ترصد أعينهم سكنه بجوراهم، فلم يبلغوا عنه.
هذه هي الحقيقة المجردة أيها الأحبة والصادمة والمؤلمة، فقد جعلوا " للحيطان ودان" وأرغموا الجميع على السير " الحيط الحيط" وكم كان مرعبا ومؤلما جدا، أن يظهر أبناء عشيرة أو أبناء أحد المعارضين ممن تم تصفيتهم من قبل النظام على الإعلام يشيد بالنظام ورأس النظام لإعدامه والدهم المارق الخارج عن طوع " أولي الأمر" وبطانتهم الصالحة.
بصريح العبارة وبإختصار، لقد تدرجت أساليب قمع الشعوب والقوى الثورية وكل شخص حاول إحداث تغير لصالح المجموع، لكنها بقيت في جوهرها تحمل توجها واحدا .. الضرب بيد من حديد .. ليس على أيدي .. بل أعناق كل من يعارض النظام الحاكم، ذلك أن النظام يمثل واجهة أباطرة الإقتصاد ورأس المال، فالسياسة تعبير مكثف عن الإقتصاد.
وتماشيا مع روح العصر، فلا بد من بعض " البهارات" على النظام السياسي الحاكم، من خلال معزوفات " الديمقراطية والشفافية وحرية التعبير عن الرأي وسيادة القانون وإحترام حقوق الإنسان، وفصل السلطات والإنتخابات ... الخ" لكن كل من يحاول ممارستها أو يدعو الى تطبيقها يلقى عقابه، وبالتالي تمارس هذه الأنظمة بطريقة "عصرية" سياسة العصا والجزرة وتقول لأي مواطن أن لك حدودا إياك ثم إياك أن تتخطاها.
الى أين أريد أن أصل وأياكم في هلوستي هذه، بصراحة لا أدري، لكن الطريق بالنسبة لإحداث تغيير على مستوى عالمي أو حتى محلي في أي بلد من البلدان، لا يتأتى بالتشتت أو برد الفعل الشعبي المؤقت على هذه الحادثة أو تلك، وإنما بتنبني نظرية ثورية، تحتاج الى حزب طليعي يقود الجماهير ويقدم أفراده تضحيات، وليس الحصول على إمتيازات كما هو الحال السائد هذه الأيام لشديد الأسف. ومن الضروري البناء على تجارب الماضي ومراكمتها، وتفهم روح وسمات العصر وبلورة أشكال النضال الملائمة التي تحقق الأهداف الأستراتيجية والمرحلية بأقل خسائرة ممكنة، مع الإخذ بعين الأعتبار قدرة الأنظمة الحاكمة على التجنيد والتحشيد وعدم الوقوف والتصفيق لأي تحرك ثوري حقيقي حتى لو تطلب الأمر الإستعانة بقوى حليفة رجعية خارجية.
إلى أن يحين ذلك ... عظم الله أجركم.