وبكل شدة إلى العملية التربوية والتعليمية، فأصاب مفاصل هذه العملية بالوهن والضعف حتى وصل الموضوع إلى شلل للمدارس والعملية التعليمية بأسرها في المناطق التي لا يوجد بها إمكانية تنفيذ التعليم عن بعد بسبب ضعف شبكة الانترنت أو بسبب عدم وجود خطط للتعليم عن بعد.
واليوم وعشية الاستعداد للعودة إلى المدارس في بداية الشهر القادم، وفي ظل استمرار تفشي الوباء الناجم عن فايروس كورونا وازدياد الحالات المصابة يوما بعد يوم عالميا ومحليا، واحتمالية عودته في موجة ثانية أو ثالثة، ونظرًا لما أصدرته الحكومة الفلسطينية من قرارات للتعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا، وأهمها تعليق عمل المؤسسات التعليمية الحكومية والخاصة في منتصف آذار الماضي، كثر الحديث في مسألة الالتزامات الناتجة عن عدة عقود أهمها عقود المدارس الخاصة. وقد شهدنا التوتر المتزايد بين إدارات المدارس الخاصة وأولياء الأمور بعد ما عمدت العديد من المدارس الخاصة إلى التهديد بحرمان التلاميذ من شهاداتهم أو عدم قبولهم في السنة الجديدة، بهدف الضغط على أولياء أمورهم لتسديد الأقساط المدرسية، وفي بعض الحالات الشاذة والمخالفة للقانون الطلب منهم أن يقوموا بدفع أقساط العام القادم بشكل مسبق! كما شهدنا حراكاً متصاعدا لأولياء الأمور واعتراضات متزايدة على عدم التزام المدارس الخاصة بأداء مهامها وتنفيذ التزاماتها استناداً إلى ما ينصّ عليه القانون ويتطلبه التعاقد.
آمل من خلال هذه القراءة تغطية الأمر من جانبين؛ كما أمل أن تلقي القراءة نظرة قانونية ومجتمعية على الموضوع.
أولا:- من الناحية القانونية
إن انعقاد العقد يترتب عليه آثار قانونية بالنسبة للمتعاقدين، وعلى كل متعاقد الوفاء بما أوجبه العقد عليه من التزامات. وحيث أن عقود التعليم في المدراس الخاصة من العقود المحددة بمدة زمنية حيث تبدأ في أيلول وتنتهي في حزيران في الغالب أي أنها عقد سنوي لا يمكن تجزئته أو تقسيمه، وفق التزامات متقابلة بين الطرفين كونها من العقود الملزمة للجانبين؛ فالطرف الأول (ولي أمر الطالب) ملزم بدفع الرسوم الدراسية وفق العقد المتفق عليه ، بينما الطرف الثاني (المدرسة الخاصة) ملزمة بتوفير الجو المناسب للتعليم وتوفير كافة المستلزمات لتلقي الطلبة التعليم بشكل صحيح، وإذا ما أخل طرف ما بالتزاماته، سواء في الظروف العادية أو في الظروف الاستثنائية، ترتب على ذلك مطالبات مشروعة للطرف الآخر فيما يتعلق بتنفيذ التزامه المقابل.
وبعد حلول جائحة الكورونا وما صحبها من إغلاق، تركزت أغلب المطالبات لأولياء الأمور بتخفيض الأقساط في ظل عدم تأدية المدارس واجباتها والتزاماتها العقدية كما يجب خلال فترة الحجر الصحي والإغلاق، إضافة إلى معيقات التعليم عن بعد، وعدم التزام مجموعة من المدارس الخاصة به، وفي حالات ليست قليلة وحتى أنها تشهد تزايدا، شهدنا مطالبة متزايدة لأولياء الأمور في عدم سداد الرسوم الدراسية بشكل كامل أو في تخفيضها من خلال خصومات كبيرة عليها.
بشكل أساسي هناك نظريتان في الفقه القانوني لمعالجة الحالة أعلاه ولكل منهما سياقه وأثره على العقود:
- نظرية القوة القاهرة والتي تتأسس على حدوث سبب خارجي غير متوقع يجعل من تنفيذ الالتزام العقدي مستحيلاً وبذلك ينتهي العقد أو يوقف تنفيذ الالتزام وفق طبيعة العقد.
- نظرية الظروف الطارئة والتي تتأسس على حدوث سبب خارجي يجعل من تنفيذ الالتزام مرهقا ويهدد بخسارة فادحة أو يهدد بحدوث ضرر كبير وعندها يصار إلى رد الالتزام المرهق وتعديله إلى الحد المعقول مما يجعل الالتزام قابل للتنفيذ ولو بشكل جزئي.
وبإنزال هذه النظريات الفقهية القانونية والأحكام المذكورة أعلاه على الواقع يتضح لنا جليًا بأن عقود التعليم الخاص خلال فترة الإغلاق والتي امتدت من شهر آذار وحتى شهر حزيران شهدت استحالة في التنفيذ من طرف المدارس الخاصة، حيث إن تنفيذ هذا العقد لم يكن ممكنا بالشكل المتفق عليه (التعليم الوجاهي مع كافة الخدمات الإضافية التي ترتبط بوجود الطلاب في المدرسة) وكما أنه لم نشهد زوال الظرف الاستثنائي المتعلق بالإغلاق بسبب جائحة الكورونا، إنما شهدنا قرار وزارة التربية والتعليم، باعتماد التعليم عن بعد في بدية الأزمة ولاحقا عندما تبين صعوبة التنفيذ للتعليم عن بعد بسبب عدم استعداد أغلب المدارس أو بسبب ضعف البنية التحتية في فلسطين تم اعتماد نتائج الفصل الأول، مما أدى إلى الإخلال بالالتزامات الواقعة على عاتق المدرسة وبحقوق الطرف الآخر (الطلاب وأولياء أمور الطلاب).
وهنا لا بد من التأكيد أن العائلات وحتى هذه اللحظة لا تطلب مساعدة أولادها في الدراسة أو مساعدات مالية، بل تطالب بحسم الأقساط وإعفاء مَن تضرّر بسبب خسارته عمله، أو تقليص أعماله، أو انخفاض دخله في ظل الظرف الاستثنائي الذي فرضته جائحة كورونا، لاسيما وأن المدارس لم تتحمل العديد من المصاريف خلال فترة الإغلاق، بل على العكس، حيث انخفضت المصاريف التشغيلية للمدارس وزادت التكاليف المعيشية على أولياء الأمور، حيث تطلب تنفيذ التعليم عن بعد، قيام الأهل بأداء أغلب مهام التعليم، فضلاً عن أن الأسر تحملت طيلة فترة الحجر الصحي تكاليف التعليم عن بُعد بسبب اقتناء أجهزة إلكترونية واستعمال الإنترنت.
ثانيا :- من الناحية المجتمعية
إن مثل هذه الظروف التي فرضتها جائحة الكورونا، تتحتم على الجميع في المجتمع الوقوف بجانب بعضهم البعض، ومساندة الفئة المتضررة وعدم التفكير في اللجوء إلى القضاء قبل تحكيم العقل والمنطق. فمثلا بعض الأفراد يستطيعون السداد نظرًا لقلة الالتزامات في ظل الحجر المنزلي،وهؤلاء يتوجب عليهم عدم الاختباء خلف ظروف الجائحة فالحس الوطني يكمن في الشدائد، أما الفئة التي تضررت جراء هذه الأزمة وتراكمت عليها الأقساط والديون من موظفين وتجار ومهنيين والذين تعطلوا عن عملهم طول الفترة الماضية، فهنا تكمن المشكلة وتكمن الخطورة في تأثير هذه الظروف على السلم الأهلي والأمن التعليمي لأبنائهم والتي هي لب اهتمامنا في هذا المقال.
ومن الجدير بالملاحظة أنه لا يوجد إجماع بين المدارس الخاصة بخصوص طريقة معالجة الموضوع، فمن جهة أصدرت الأمانة العامة للمدارس المسيحية في فلسطين بيانا حول توافقها مع وزارة التربية والتعليم بالتزام المدارس المسيحية الخاصة العضو في الأمانة العامة بمنح خصم قيمته 15 % عن قسط العام المنصرم، وفي حين التزمت معظم المدارس المسيحية الخاصة بهذا التوافق لوحظ عدم التزام بعض المدارس المسيحية الخاصة بهذا التوافق، كما أصدرت نقابة المدارس الخاصة بيانا حول منحها 25% خصما على أقساط العام المقبل نظرا للاوضاع التي تمر بها البلاد وليس واضحا نسبة المدارس الخاصة التي التزمت بهذا القرار. وفي حين أن وزارة التربية والتعليم وفي بياناتها وتوجيهاتها الصادرة حول تأثير جائحة الكورونا على عملية التعليم بشكل عام وعلى قطاع التعليم الخاص بشكل خاص توصي بمراعاة ظروف الأهالي، نرى أن بعض المدارس الخاصة قد اتخذت نهجا معاكسا، عن طريق طلب الدفعات المسبقة عن العام الدراسي القادم وحتى زيادة الأقساط كما تداولت بعض المواقع الموجودة على شبكات التواصل الاجتماعي. وقد قامت الوزارة وفق التصريحات الصادرة عنها على خلفية المشاكل التي واجهها قطاع التعليم الخاص والانعكاسات السلبية لتوقف الدراسة بسبب الإجراءات الوقائية للحد من انتشار فيروس كورونا بتشكيل لجنة لترتيب الأوضاع في هذا القطاع ولكن دون تحديد إطار زمني محدد لعملها ودون مشاركة من مجالس أولياء الأمور فيها!
ختاما، من الواضح أن هناك قضايا متعددة يجب على صانع القرار أن يأخذها بعين الاعتبار بخصوص العملية التربوية والأكاديمية، منها العودة إلى التعليم الوجاهي وما يترتب عليه من تفاصيل صحية واقتصادية، ولكن أيضا يبقى هاجس أن التعليم للعام المقبل سوف يتم عن بعد أيضا قائماً، لذا نجد أن اتباع النهج التعاوني من قبل المدارس الخاصة يمكن الجميع من تخفيف حدة الوضع المتوتر. وهنا ندعو إلى ونطالب بتدخل الحكومة الإيجابي لغايات توزيع الأعباء بين كافة أطراف العلاقة والمحافظة على جودة العليم للطلاب والتي يجب أن تبقى الهاجس الأوحد للحكومة وتحقيق التوازن التعاقدي بين هؤلاء الأطراف مما سيؤدي بالتأكيد إلى تحقيق الأمن المجتمعي والحفاظ على السلم الأهلي في ظل هذه الظروف الاستثنائبة، فالتعليم يجب أن يكون وأن يبقى قيمة وليس تكلفة.