اطلس:لا يختلف اثنان على معاناة القضاء في فلسطين من ازمة غير مسبوقة لاسباب يدركها الجميع، نحن اليوم بحاجة الى حلول او مقترحات عملية للخروج من هذه الازمة التي تكاد تقوض مداميك القضاء والثقة بمنظومة العدالة برمته.
نعتقد ان النقاش حول اصلاح القضاء دار ويدور حول مجلس القضاء الاعلى دون الالتفات الى منظومة العدالة ككل والتي تعد الرافد الاساس لجملة القضايا المنظورة امام الهيئات القضائية ، وحيث ان الصراع كان على النفوذ لدى البعض ونظرا لمفهوم القضاء المحدود لدى البعض الاخر فلقد تركز مفهوم الاصلاح على من يقود مجلس القضاء الاعلى لذا فان أي عملية تبديل او تعديل على من يقومون على القضاء سيقود الى نتيجة صفرية ليس الا، لذا علينا ان ننظر الى مفهوم اعمق وادق لمضامين الاصلاح القضائي وبالتالي فعلينا ان نجفف المفهوم الكلاسيكي للاصلاح وننطلق الى فضاءات عمل جديدة للاصلاح القضائي الشامل على اسس عمل جديدة ومتجددة وقابلة للتنفيذ ونرى ان الاصلاح القضائي :يجب ان ينطلق من مسارات عديدة وهي:
1- الاصلاح البنيوي للقضاء ويشمل ولا يقتصر على اعادة بناء المنظومة القضائية برمتها من حيث البنيان الاداري والقضائي بحيث نعيد تعريف مفهوم السلطة القضائية برمته والتي من الممكن ان تتم من خلال:
أ- الفصل الاداري لمجلس القضاء الاداري عن المهام القضائية.
ب- التوجه نحو انشاء وتعزيز دور النظام شبه القضائي من خلال تعزيز عمل اللجان شبه القضائية والامبودسمان والوسيط والمدافع عن الشعب.
ت- تعزيز دور المؤسسة الوطنية لحماية الحقوق والحريات من خلال منحها صفة قانونية وليس عرفية في التعامل مع الملفات ذات الاختصاص.
ث- تفعيل نظام التسويات القضائية والتعديل عليها اينما لزم
2- الاصلاح القائم على الاختصاص: بحيث يتم التأكد من قيام الضابطة القضائية و النيابة العامة بدورها المنصوص عليه قانونا وكيف يمكن لها ان تلعب دورا اكثر فاعلية في اصلاح القضاء.
سنركز في ورقتنا هذه على انشاء وتفعيل النظام شبه القضائي في فلسطين كاحد الادوات الممكنة والقابلة لاصلاح القضاء وكذلك الوقوف على الاصلاح القائم على الاختصاص وسنتطرق بشكل مقتضب الى فكرة الفصل الاداري لمجلس القضاء الاداري عن المهام القضائية .
نؤمن ان النظام شبه القضائي والذي يتوسع مفهومه ويتجذر دوره في العالم اصبح اكثر الحاحا في هذه الايام، فالقانون السويدي مثلا يعطي الامبودسمان الحق في الرقابة على القضاء والادارة والجيش، وهذا النموذج هو الاكثر تقدما في العالم حيث يتيح لمن تضرر من أي خلل في أي من سلطات العامة التقدم بتظلم لدى الامبودسمان المختص بحيث يكون لقرارته قوة النفاذ تجاه الجهات العامة، اما في فرنسا فيطلق عليه نظام الوسيط بحيث يراقب اعمال الادارة العامة ويعمل مباشرة مع رئيس الجمهورية، اما في المملكة المغربية فان هناك الامبودسمان والمجلس الاستشاري لحقوق الانسان، وفي السعودية فلقد تحول نظام "ديوان المظالم" الى نظام قضائي حيث اصبح ينطوي تحت صلاحياته 16 محكمة ادارية منتشرة على مستوى المملكة،بحيث انتقل مؤخرا من تلقي الشكاوي الى منظومة قضائية موازية تماما عن القضاء العادي وهناك نظام للمرافعات خاص بديوان المظالم ويتصل ديوان المظالم بالملك مباشرة. اما في النمسا فلقد تم انشاء امبودسمان خاص بالجيش واحهزة الامن من جهات شبه قضائية.
اضف الى ذلك فان كل الدول تعمل على تفعيل دور اللجان شبه القضائية من خلال وضع نظام للاعتراض والتظلم امام لجان شبه قضائية للبث في صحة القرارات الصادرة عن الادارة العامة من عدمها، بحيث يوفر الاعتراض من خلالها الوقت والمال ويقلل الضغط على المنظومة القضائية العادية وفي فلسطين يوجد عديد من الامثلة على اللجان شبه القضائية، الا ان ما ينقص هذه المنظومة هو التعويض عن الضرر مع العلم ان القانون الاساسي الفلسطيني مثلا في المادة(32) كفل للمتضرر التعويض عن أي انتهاك لاي من الحقوق والحريات. بالمقابل فان تفعيل نصوص التسوية القضائية الواردة في قانون اصول المحاكمات المدنية والتجارية، بل والتعديل عليها يعد عاملا مهما وحيويا للتخفيف من ازمة القضاء، حيث ان القضايا العمالية والتجارية لها نصيب كبير في القضايا المنظورة امام القضاء وجعل كافة القضايا الجديدة ملزمة قانونا.
عودة على ذي بدء فان فكرة فصل مجلس القضاء الاعلى بشقه القضائي عن الاداري يحتاج الى تفكير وفحص لمدى الفاعليه والغاية المتوخاه من ذلك، بحيث من الممكن تعيين اعضاء في مجلس القضاء الاعلى من شخصيات مشهود لها بالنزاهة والحيادية ويكون دورها اداري فقط اما الشأن القضائي فيتم ادارته من القضاة الممثلين في المجلس بحيث لا يتدخل الجسم الاداري بالقضائي داخل المجلس، والسؤال الذي يحتاج الى اجابة يتعلق بسبل الرقابة على اعمال القضاء، في السويد مثلا منح هذا الحق للامبودسمان، اما في فلسطين فاننا نقترح ان يتم انشاء جسم مستقل للرقابة على اعمال القضاء ويفضل ان يكون من خارج القضاء حتى نضمن عدم التاثير على هذه الجهة ويفضل الا تستمر عضوية هذا الجسم لاكثر من سنتين ولا يجوز تمديها تحت أي سبب من الاسباب.
اما ما يتعلق بالاصلاح من حيث الاختصاص فيمكن ان نورد مثالا على الاختصاص الممنوح للضابطية القضائية حيث تقوم مثلا الشرطة باستقبال الشكوى وتحويلها مباشرة للنيابة، في العادة وبحكم عدد القضايا الكبير تقوم النيابة بتحويل الملف الى المحكمة مباشرة بعد استكمال الاجراءات الشكلية خاصة اذا كان موضوع الشكوى وتكييفها القانوني جنحة، ومن هنا تبدأ رحلة المتقاضيين امام المحكمة المختصة وقد تمتد لسنوات. فان فرضنا ان الضابطية القضائية تقوم بما يلزم قانونا عليها من جمع للاستدلالات وفقا لقانون الاجراءات الجزائية وبعد ان تقطع الشك باليقين او تتوفر لديها المقومات القانونية لتحويلها الى النيابة العامة او تحت متابعتها فان عدد القضايا المنظورة امام القضاء تصبح اقل بكثير ولا تصل في هذه الحالات الا القضايا الحقيقة للنظر بها امام القضاء. لدينا تجربة قائمة تتمثل بهيئة مكافحة الفساد حيث يقوم طاقم الهيئة بصفته ضابطة قضائية باستقبال الشكاوي والبلاغات، ويتم جمع الاستدلالات حول موضوع الشكوى والتحقق من صدق المعلومات، وان احتاجت لاي اجراء قانوني يتعلق باختصاص النيابة تقوم بالطلب من النيابة العامة الاذن للحصول على معلومات اضافية، النيابة العامة تقوم بدراسة الطلب وتتحقق منه وتقوم بطلب معلومات اضافية من الهيئة حول طلب الاخيرة او تقديم طلب للحصول على ما تطلبه مكافحة الفساد لاستكمال جمع الاستدلالات، ولا تقوم الهيئة بتحويل الملف للنيابة الا بعد ان تتوفر لديها شبهات حول قضايا الفساد، بعد ان تقوم الهيئة بتحويل الملف للنيابة تقوم نيابة مكافحة الفساد المختصة بدراسة الملف من جديد وتفحص امكانية مباشرة التحقق مع المشتكى عليهم ام لا، بجيث تبدأ عملية التحقيق لدى النيابة ولا تقوم النيابة بتحويل الملف الى محكمة مكافحة الفساد الا بعد استكمال كافة المعلومات والتحقق من سلامة الاجراءات. ان هذا النموذج من العمل يمكن ان يؤخذ كنموذج للاصلاح في منظومة العدالة.
كذلك يمكن ادخال تعديل على قانون العمل الفلسطيني بحيث تشكل بموجب هذا التعديل لجان شبه قضائية من ممثلين عن الوزارة والعمال والقطاع الخاص للنظر في الشكاوي المقدمة من العمال او اصحاب العمل، بحيث يحكمها قانون مرافعات او اصول محاكمات خاصة يستلزم وجود محامي يدافع عن المدعي والمدعي عليه بجيث يجيز للمحكوم له او عليه استئناف القرار امام محكمة الاستئناف المختصة وبذا نكون قد اختصرنا وقتا وجهدا وتم التخفيف عن القضاء كمنظومة.
امام كل ذلك يجب علينا القيام بالخطوات التالية:
1- اعداد قانون جديد يتعلق بانشاء نظام شبه قضائي لقرارته صفة الالزام وفرض التعويض على من تسبب الضرر سواء على شخصه او على الجهة الادارية مصدرة القرارات مع حق المتضرر من تقديم طعن امام محكمة العدل العليا وبذا يصبح لدينا تقاضي اداري على درجتين.
2- اصدار قانون خاص بالمرافعات امام الامبودسمان بحيث يتمكن كل طرف من توكيل محامي وتمثيله بما يضمن سلامة للاجراءات وتحقيق العدالة في المسائل الحقوقية والمدنية وقرارات الادارة المتعلق بهذه الحقوق والحريات
3- ادخال مفهوم اللجان شبه القضائية على كل القوانين المتعلقة بقرارات الادارة خاصة تلك المتعلق بالقرارات التشغيلية ان جاز التعبير، مضافا اليها القرارات التي تخالف القوانين وبهذا نكون ايضا امام نظام تقاضي اداري على درجتين.
4- التعديل على قانون اصول المحاكمات المدنية والتجارية بخصوص التسوية القضائية من حيث التفعيل والاختصاص والاطراف بحيث تصبح فكرة التسوية القضائية ممر الزامي لاي من المتقاضين في القضايا العمالية والتجارية قبل التوجه للقضاء بحيث يصبح التوجه لقاضي التسوية امرا الزميا وفي حال لم يتفق ويتوافق الاطراف على التسوية يحق لهم التوجه للقضاء العادي .
5- التعديل على قانون العمل بخصوص انشاء لجان شبه قضائية للفصل في المنازعات العمالية وفقا لقاعدة التمثيل الثلاثي( ممثل عن الوزارة وممثل عن العمال وممثل عن القطاع الخاص مختص قانوني).
6- ضرورة تفعيل قانون التحكيم الفلسطيني وجعله جزء من المنظومة شبه القضائية حتى نتمكن من التخفيف من الضغط على النظام القضائي.
7- ضرورة فصل الشق الاداري عن القضائي في مجلس القضاء بحيث يكون مكون من قضاه وشخصيات عامة ليس لها علاقة في القضاء او مصلحة وان تكون عضويتهم فقط لمدة سنتين غير قابلة للتمديد تحت أي ظرف من الظروف. اما الشق القضائي فان العضوية فيها تخضع لمعايير العمل القضائي.
8- بناء نظام رقابة على اعمال القضاء من خارج منظومة القضاء بحيث تكون هذه الجهة او المؤسسة ذات اختصاص وحيد وواحد هو الرقابة على اعمال القضاء على ان يتم تجديد العضوية لمدة سنتين فقط ولا يجوز لمن يعمل في هذا الجسم ان يستمر في العمل اكثر من سنتين.
ان هذه الافكار هي مادة خام للتفكير المجتمعي والمؤسساتي للخروج من عمق الازمة التي نعيش، بحيث يمكن لوزارة العدل ان تلعب دورا هاما في قيادة هذا التوجه خاصة وان الحديث يدور عن بناء شبه قضائي قابل للتطور والتحديث.
ندرك ان هذه الافكار تحتاج الى جهد عميق وقبول مفاهيمي للتعامل معها الا انها قد تكون المخرج الافضل لمواجهة حالة التهالك القضائي