اطلس: كتب د. إياد فايز أبو بكر* : أشير في البداية إلى أن العمل الاجتماعي في فلسطين هو عمل متقدم ومتطور على نحو مستمر على الرغم من التحديات الكبيرة التي يواجهها بسبب ممارسات الاحتلال الإسرائيلي اليومية، الذي يستهدف كل شيء، حيث إنه لم يترك بشراً ولا شجراً ولا حجراً، مخلفاً آثاراً
جمة برزت في إحصاءات أسر الشهداء والجرحى والأسرى وأرقامهم، وما تبع ذلك من آثار على أفراد المجتمع الفلسطيني بأسره. ولعل هذا الاحتلال وما أفرزه قد وضع المهنة ومؤسساتها المختلفة أمام ذلك التحدي الكبير الذي أدى إلى تجاوز الصعاب، ومن ثم بذل المزيد من الجهد في سبيل تقديم المساندة والدعم الاجتماعي والنفسي المطلوبين.
كما أن العمل الاجتماعي في فلسطين له أصوله وجذوره؛ حيث إنه لم ينبثق من فراغ، فهناك العديد من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية والدولية والمحلية التي تضافر جهودها في سبيل تقديم الكثير من الخدمات، وأمثلة ذلك وزارة التنمية الاجتماعية التي تقدم خدمات الإغاثة والتدخل مع الأفراد والأسر على المستوى النفسي والاجتماعي والتأهيل، وهذه الخدمات تقدم لفئات كثيرة، منها: الأسر الفقيرة والمهمشة، وذوو الإعاقة، والأحداث، والنساء المعنفات، متمثلة في مراكز الشبيبة وتأهيل الفتيات، ولديها أيضاً مركز للمسنين (بيت الأجداد) ومراكز أخرى لذوي الإعاقة. بيد أن الوزارة دأبت على التجديد من حيث النوعية، بحيث إن الخدمات التي لا تتوافر بها تقوم بتقديم خدمة تسمى "شراء الخدمة"، حيث تدفع الوزارة بعضاً من المبالغ المالية لمؤسسات تقدم خدمات غير متوفرة لديها.
وباطلاعنا على تقديم هذه الخدمات في ظل الجائحة، فقد تضرر العديد من الفئات المعتادة على الحصول على الخدمات، وذلك لسببين: الأول، الجائحة التي قللت من تقديم البرامج جراء الحجر المنزلي، عدا عن تعطل الكثير من معظم المراكز الإيوائية والتأهيلية، والثاني انقطاع أموال المقاصة التي تجنيها السلطة الوطنية من الضرائب بعد أن حجزها الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي قد أسهم في تفاقم الوضع وازدياده سوءاً.
وإذا ما تحدثنا عن وزارة التربية والتعليم التي تقدم الخدمة الاجتماعية فيها كمؤسسة ثانوية (الإرشاد النفسي والتربوي)، فقد كان الوضع صعباً نتيجة لتعطل المدارس فترة طويلة واعتمادها التدريس عن بعد في فترة الحجر المنزلي، مما أدى إلى ظهور كثير من المشكلات الاجتماعية والنفسية. فقد تم التعامل مع الحالات الفردية والجماعية للطلبة الذين أصيبوا بالفايروس وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للطلبة الذين أصيب أحد أفراد أسرهم، فضلاً عن أن المرشدين التربويين خضعوا للدورات التدريبة في كيفية التعامل مع المشكلات الناجمة عن الحجر المنزلي، وكل ذلك كان عبر التواصل الإلكتروني والهاتفي.
على صعيد الجامعات أيضاً، كان التعليم الإلكتروني تجربة صعبة وناجحة في آن، إلا أن هناك العديد من الآثار الاجتماعية والنفسية على الطلبة وعلى أعضاء هيئة التدريس بالجامعات، وقد حاولت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بذل المزيد من الجهد للتغلب على العواقب، ولكن لم تتمكن من تجاوز أزمة المواجهة.
وفيما يتعلق بوزارة الصحة وعلى الرغم من انشغالها الكبير والضغط الذي عانته من ازدياد الحالات وانتشار الوباء، إلا أنها لم تهمل تقديم الخدمات النفسية والاجتماعية، فثمة متابعة طبية وصحية للمرضى من قبل الإدارة العامة للصحة النفسية، فضلاً عن تقديم الخدمات النفسية والاجتماعية للمرضى الذين تظهر عليهم أعراض نفسية واجتماعية بسبب الإصابة.
ونشير هنا إلى وزارة العمل التي تقدم الكثير من الخدمات من خلال مديرياتها المنتشرة في محافظات الضفة الغربية وقطاع غزة، منها التشبيك مع السوق المحلية لتشغيل أكبر عدد ممكن من العمال الفلسطينيين، وتقديم دورات مهنية للخريجين، ودورات التأهيل المهني، وغيرها. وكان عملها وخدماتها قد تأثرت في ظل الجائحة، كما تأثر العمال الذين يعملون داخل أراضي 48 المحتلة، وأيضاً العمال الذين ظهرت لديهم مشكلات في العمل، حيث وضعت وزارة العمل خطة طوارئ في ظل الجائحة من شأنها تعزيز خدماتها التي كانت تقدم قبل الجائحة، وكان أبرزها صندوق "وقفة عز" الذي بمقتضاه قدم مبلغاً مالياً للعمال الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى عملهم في الداخل الفلسطيني، فضلاً عن المتابعات اليومية للعمال الذين يواجهون إشكالات متعددة.
وفيما يتعلق بالمؤسسات الأهلية والجمعيات، فقد استمر كثير منها في العمل، وخصوصاً تلك المؤسسات غير الإيوائية، ولكن خدماتها تقلصت نظراً لسلسلة التطورات التي شملها الإغلاق الكامل، كما أن بعض المؤسسات تعطلت برامجها بسبب ظروف التباعد الاجتماعي، والإغلاقات المتعددة، وقامت بوضع برامج طوارئ بديلة.
كما قدمت الإغاثة الطبية برامج عدة، منها: خدمات نفسية، وأخرى اجتماعية، وطرود غذائية وصحية كالكمامات والمعمقات وغيرها، والمشاركة في فرق الطوارئ التي كانت مهمتها التأكيد على الالتزام بالصحة والسلامة العامة، والحد من انتشار الوباء، والتواجد على الحواجز التي انتشرت بهدف منع التنقل والاختلاط، وأسهمت أيضاً في تنظيم محاضرات وندوات عبر عديد من المنصات الإعلامية بهدف معالجة بعض الآثار والمشكلات المترتبة على الجائحة كالإشاعة وغيرها. وأسهمت أيضاً في زيارة المرضى وأُسرِهم وتقديم التفريغ النفسي لهم من خلال الموظفين والمتطوعين وطلبة الخدمة الاجتماعية من الجامعات الفلسطينية، وخاصه طلبة جامعة القدس المفتوحة.
ومن المشكلات الأخرى توقف دوام عدد من المؤسسات الدولية، كوكالة الغوث، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمات حقوق الإنسان، واليونيسيف، وغيرها. واكتفت هذه المؤسسات بالعمل من خلال المنازل، كعقد الورش والندوات التوعوية والتثقيفية.
وعلى صعيد نقابة الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين، فقد بادرت النقابة منذ بداية الجائحة في عمل العديد من الأنشطة، كان من أبرزها عقد اجتماعات تنسيقية مع عدد من المؤسسات التي تعمل في هذا المجال، وذلك بهدف تنسيق الجهود في تقديم الخدمات المتعلقة في مجال الخدمة الاجتماعية في ظل الجائحة، كما عملت النقابة من خلال مجموعات "واتسآب" و"فيسبوك"، التي كان هدفها تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للمصابين وعائلاتهم.
وباطلاعنا على عمل بعض المؤسسات، فقد تشابهت الخدمات التي تقدمها هذه المؤسسات من تقديم دعم نفسي واجتماعي، وطرود غذائية، ومعقمات ومواد صحية، ودعم العمال المتضررين والأسر التي ازدادت فقراً بفعل الجائحة.
وبالنظر إلى واقع العمل الاجتماعي في فلسطين، فإن ما ورد ذكره ليس سوى أمثلة ونقاط مضيئة في العمل الاجتماعي، إلا أنه عمل بحاجة إلى مأسسة لإعادة ترتيبه على الأصعدة الآتية:
أولاً: التعليم والتأهيل الأكاديمي للأخصائيين الاجتماعيين
أ. المواد النظرية: مازالت المقررات التي كانت تدرس منذ زمن بعيد هي ذاتها، والتحديث الذي يحصل تحديث يحصل بدرجة ضئيلة.
ب. المواد العملية (التدريب الميداني): وهو مرتبط بالمؤسسات التي تعمل في ميدان الممارسة المهنية التي تعاني من إشكالات كثيرة.
ثانياً: الممارسة المهنية للمؤسسات: هي ممارسات تقليدية في معظم الأحيان. وكما بينا أعلاه، تفتقر إلى التجديد والتنظيم والتنسيق ونظام تحويل فاعل، فضلاً على أن معظم البرامج التي قدمت في فترة الجائحة خدمات إغاثية، ومعظمها يعتمد الممارسة التقليدية التي لا تعتمد على البراهين والأدلة المنبثقة من نتائج الأبحاث والدراسات.
ثالثاً: الأبحاث والدراسات: نشير إلى أن معظم الأبحاث التي تجرى لها علاقة مباشرة بالحصول على الدرجة الأكاديمية، أو الترقية وتحسن الوضع الوظيفي للباحث، وقد يؤثر ذلك في الممارسة المهنية على نحو كبير، فضلاً إلى ضعف التنسيق بين المؤسسات الأكاديمية ومراكز الأبحاث القليلة أصلاً في هذا المجال.
رابعاً: هوية مهنة العمل الاجتماعي: هناك العديد من الإشكاليات في هذا الإطار، أهمها:
- لم تتبنّ السياسة الاجتماعية للدولة فكرة توطين مهنة الخدمة الاجتماعية على النحو الأمثل، وعلى الرغم من وجودها نظرياً في بعض الجامعات إلا أنها غير ممثلة بالدرجة المنشودة في المجالات والميادين المختلفة للخدمة الاجتماعية، كما أنه لا يوجد قانون نافذ ينظم هذه المهنة، ولا ميثاق داخلي، ونظام داخلي مطبق. وربما تكون هناك بعض المحاولات، ولكنها لما تنفذ بعد.
- تدويل مهنة الخدمة الاجتماعية والتبادل الأكاديمي لم يتم بالشكل المطلوب؛ فعلى صعيد الطلبة وأعضاء هيئة التدريس لم تصل الخبرات كما هي موجودة لدى اختصاصي العمل الاجتماعي بالدول المتقدمة، مثل: إدارة الحالة ومدير الحالة، ومؤتمرات الحالة، والإسعاف بالخط الساخن، ومكاتب الاستشارات الأسرية والزوجية، والعديد من موضوعات التحرش والزواج المبكر، والعنف المبني على النوع الاجتماعي. فعلى الرغم من عمل بعض المؤسسات الدولية والمحلية بها ومحاولة نشر مفاهيمها، إلا أنه لم يصل إلى العمل المنشود أيضاً.
- ثمة اختلاط بين من يمارس المهنة، هل يمارسها اختصاصي علم الاجتماع وعلم النفس، أم دارسي الخدمة الاجتماعية؟ وما هي مقومات ممارسي هذه المهنة وكفاءتهم؟
- أخيراً، وجود الاحتلال بصورة مستمرة وعرقلته لكل وسائل التقدم والتطوير على جميع الأصعدة، ومنعه التنقل داخلياً وخارجياً، ومنعه البعثات والتبادل الأكاديمي، ومنعه استقبال بعض الوفود، وغير ذلك من ضغوط اقتصادية تضرب بجذورها وتؤثر في شكل وطريقة الحصول على الإعانات وتوزيعها ونوعية المشروعات ونوعية الخدمات الممولة، كلها يؤثر في تقدم العمل الاجتماعي وتطويره على النحو المنشود.
* عميد كلية التنمية الاجتماعية والأسرية في جامعة القدس المفتوحة