اطلس: كتب رامي مهداوي : أنا لست متخصص بالنقد السينمائي، لكن أستطيع كتابة ما شعرت به كمُشاهد تحول منذ اللحظة الأولى من العُمر الزمني للفيلم الى مُمثل بداخله. مُمثل على شاشة استحضار ذكريات الماضي
ومتابعة سيناريو الحاضر بمرارته اليومية التي لا يعرفها العالم سوى من منطلق مشاهدة الجزء الأصم من المشهد وهو جدار الفصل العنصري.
لم يتحدث ابن قريتي شويكة فقط عن قصته الخاصة من خلال كتابته للنص وإخراجه"200 متر" كأول فيلم روائي طويل له، وإنما استنطق أمين نايفة الجدار ليتحدث عن المآسي والمعاناة اليومية من زاوية إنسانية لا يشعر بها إلاَ من يعيشها داخل مجتمعنا الفلسطيني ويجهلها العالم بأكمله.
استطاع نايفة بجدارة دق الخزان من خلال النصوص المخصبة بالسيناريو المُمتلئ بالمنعطفات الحادة في قضايا مجتمعية ووطنية مختلفة تثير الفكر، ما جعلني أستذكر سؤال غسان كنفاني في روايته رجال في الشمس في إحدى مشاهد الفيلم داخل صندوق السيارة: لماذا لم يدق أبو قيس وأسعد ومروان جدران الخزان وهم يختنقون في صهريج مقفل يشتعل سعيرا في شمس الصحراء اللاهبة على حدود الكويت؟!
غير أن سؤال كنفاني الماضي مازال حاضراً بجدلية جديدة وسؤال مراوغ ويدفعنا للبحث عن الإجابة بإعادة بناء السياق من حيث الزمان والمكان بل وإعادة وعي السياق العالمي بأنهم أيضاً لا يشاهدون المعاناة اليومية التي كانت من داخل خزان المياه في الماضي الى داخل سجون "الجيتو" بأسوار الجدار.
حبكة الفيلم بهذا المعنى تتخطى الحدث أو مسافة 200 متر ويغدو في الواقع اليومي لمن يعيش حياة الإشتباك اليومية مع الجدار سؤالا أكثر شمولية من الحدث المحدد في نص السيناريو، لهذا نجح الفيلم بلياقة عالية من خلال طاقم العمل جميعاً بإعادة طرح القضية الفردية في مواجهة الإحتلال الكولونيالي بأدواته المختلفة بحيث تصبح خيارات الأفراد الذاتية هي خيارات مصيرية في المواجهة وهذا ما يفعله الفلسطيني الآن كل يوم.. كل ساعة ... كل دقيقة.. كل ثانية.
هذا الفيلم تطورٌ فريدٌ جديدٌ على المشاعر الأعمق التي يواجهها نسبة عالية من مجتمعنا دون التعبير عنها، وربما يجهلها نسبة كبيرة، لذلك يمكن للناس أن يتفاعلوا بشكل غير متوقع مع المعتقدات المتطرفة والمعلومات الخاطئة ، حيث يتعلق الأمر بالظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام من نداءات المشاعر والمعتقدات الشخصية؛ يُعرف هذا بمفهوم ما بعد الحقيقة. فيلم "200 متر"هو فيلم ملائم اليوم في عالم يمكن فيه تشويه المعلومات بشكل كبير.
الفيلم ليس له نهاية بالمفهوم الكلاسيكي للرواية، الفيلم لم يترك النهاية مفتوحة أو مغلقة بالمعني الحرفي، ولم ينتصر بطل الفيلم بهدم الجدار بالمعنى الملموس كجدار برلين!! وإنما نجح الفيلم بكل مكوناته من المخرج والسيناريو والمنتج وجميع الممثلين ومن يقف خلف الكاميرا بعدسته الشفافة للحقيقة أن يستكشفوا ديمومة ديناميكيات التناقضات الداخلية في حياتنا الداخلية كبشر يخضعون تحت وطأة الإحتلال.
لقمة العيش، العائلة، الخوف، المرض، الآخر، الموت، الظُلم، العطش، ممارسة الحب، الطيبة، الحاجز،التعاون، الصراع، الطفولة، الإنسانية!!، الكُره، الضوء، الإبتسامة، المسافة، حدود 48 و67، الهوية، الرحلة، الثقة، الجوع، المرأة، اللغة، الذاكرة، الأحلام، المجهول، التهريب، الشجاعة، كل ذلك ستجده في 200 متر، وتكتشف من الأضواء الملونة بنهاية الفيلم أنه كان يتحدث عن "أنا" الكُل الفلسطيني يقول ما قالته الروائية الإنجليزية (جاين أوستين): "لا توجد مسافات عندما يكون لديك دافع".