إن الإتجاه العام لتوجه كل من يحاول زعزعة الجبهة الداخلية يهدف بشكل أساسي الى تقويض السلطة الوطنية الفلسطينية واستبدالها بقيادة تابعة كليا للاحتلال وللغرب الإمبريالي وللتجاذبات العربية والإقليمية لخدمة أهداف الكل إلا أهداف الشعب الفلسطيني المتمثلة في التحرر والانعتاق من الاحتلال وإنشاء الدولة الفلسطينية العتيدة وتحرير الأرض والبحر والجو وعودة اللاجئين وإطلاق سراح المعتقلين وغيرها من المطالب الأخرى التي ناضل لأجلها أبناء الوطن.
هناك مجموعات متخصصة لدى الإحتلال الغاصب والإمبريالية وبعض الدول الإقليمية والعربية تعكف يوميا على استقراء المزاج الفلسطيني العام، لتبث سمومها بين الجماهير الفلسطينية في الداخل والخارج بغية تقويض السلطة الوطنية الفلسطينية وبغية تحقيق سياسة استعمارية قديمة متجددة دوما ألا وهي سياسة " فرق ... تسد ".
من السذاجة بمكان أن نظن أن صحفيا إسرائيليا قد تمكن بحسه الصحفي و عمليته البطولية "الفدائية" المغوارة أن يكشف – مثلا – صفقة اللقاحات التي دار حولها الكثير من اللغط بل والنقمة على قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية لدرجة المطالبات بإستقالات وإقالات. كل ما في الأمر يا سادة يا كرام، أن المطبخ الإعلامي الصهيوني سلم هذا الصحفي " المغوار" الحد الأدنى من المعلومات التي عندما قام بنشرها، انشغل الشعب الفلسطيني برمته بتلقف هذا الخبر واشتعلت معه وسائل التواصل الإجتماعي لتصبح هذه المادة الإعلامية المسربة حديثا للشارع على امتداد الأيام الى أن يأتي حدث آخر يطغى عليه ( حادثة التصفية الجسدية للمرحوم نزار بنات)، فينشغل المواطن الفلسطيني بهذا الحدث الجديد وينسى الأول وهكذا دواليك ... تدور الأحداث ... تزداد النقمة على القيادة ... وتتعاظم الحالة النفسية لدى الغالبية المطالبة بضرورة التغيير، فيتلقف الكل ( إلا الشعب الفلسطيني) هذه الفرصة لإستبدال القيادة ( الحرس القديم) بالحرس الجديد المفصل كما تريد الإمبريالية الأمريكية والإحتلال الغاصب والأنظمة الإقليمية والعربية وحتى البعض الفلسطيني من بيننا.
كم هي التسريبات الصحيحة وغير الصحيحة التي سربها الكيان الصهيوني للإعلام بغية زعزعة جبهتنا الداخلية، كم شخصا من بيننا ( بقصد أو بغير قصد) حمل المعلومة والتسريب الصهيوني وروّج لها بل وزاد عليها ( من بهاراته) وتنافخ شرفا مطالبا بالإقالة والمحاكمة دون التمحيص في صحة ما تم تسريبه؟
كم من شخص من بيننا سجّل ( أيضا بأهداف بريئة أو غير بريئة) تسجيلات صوتية لهذا أو ذاك من القيادة الفلسطينية وقام بترويجها، فكيف لنا أن نتفهم الأهداف " البريئة" من تسريب تسجيل صوتي أو بالفيديو لمسؤول فلسطيني يتحدث أمام كوادر فصيله في شأن داخلي للفصيل يزيد من حالة البلبلة داخل الفصيل الذي يحتاج أكثر من يحتاج الى "الشدشدة"، كيف لنا أن نستوعب أن هناك أهدافا "بريئة أيضا" من تسريب لحوار جرى داخل القيادة العليا للسلطة الوطنية ونقل شتيمة الرئيس " التي كانت صراحة في محلها وأشفت غليلنا" عندما في معمعة المعركة يخرج من يطالب بتهنئة حزب حاكم لدولة بعيد ميلاده، كيف لنا أن نستوعب هذا الكم الكبير من المعلومات التي يتم تسريبها من داخل مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية وبضمنها المؤسسات الأمنية وصور المراسلات المختلفة الى "السكلنص" أو أشباهه وكل الهدف منها ليس إعادة النضال الوطني الفلسطيني الى مساره النضالي الحقيقي وجادة الصواب بل ضعضعته.
لا أقول ذلك دفاعا عن أحد، ولا إخفاءا لحقائق، أو غير ذلك، فأداء السلطة الوطنية الفلسطينية ليس مقنعا للغالبية وليس مقنعا لي، ويطغى عليه الكثير الكثير من السلبيات وأهمها تغول السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، وعدم إحترام مبدأ استقلال القضاء وسيادة القانون، وكثرة المراسيم الرئاسية التي يتم الغاء بعضها بمراسيم جديدة حتى قبل أن يجف حبرها، وخروقات موثقة وسجل غير خال من إنتهاكات لحقوق الإنسان، وكثرة المحسوبيات في التعينات، وتغول قطاع الخدمات ( المصرفية والاتصالات بشكل أساسي) لدرجة أن كل منها يشكل "دولة داخل دولة"، وترعرع شريحة الوسطاء التجاريين ( الكمبرادور) المستوردين لكل ما هبّ ودب، وضعف الخدمات الصحية وخدمات الشؤون الاجتماعية وقطاع التعليم، وغيرها الكثير الكثير
ويراكم على ذلك كله، رد فعل السلطة الوطنية الفلسطينية إزاء "الغضب الجماهيري والشعبي" تجاه أمر ما أو حادثة ما، فلا يعقل مثلا أن يصار الى قمع تحرك شعبي رفضا لصفقة " اللقاحات" مع الإحتلال، حيث أن هذا التحرك قد جاء في مسألة تمس حياة البشر والمواطن الفلسطيني، ولا يكفي الإعلان عن تشكيل "لجنة تحقيق" فقد تنامى في الوجدان الفلسطيني المقولة المشهورة " إن بدك تموّت قضية .... شكل لها لجنة". وفي حادثة التصفية الجسدية للمرحوم الشهيد " نزار بنات" لم يرتق رد الفعل الحكومي الرسمي لجسامة و "هول الواقعة" بل بالاكتفاء أولا بتصريح مقتضب يفيد بوفاة المرحوم نزار بنات بعد ساعات من إعتقاله، وثانيا بتشكيل "لجنة تحقيق" وبدلا من استيعاب الغضب الشعبي لجأت ثالثا الأجهزة الأمنية الى أسلوب " الضرب والتنكيل" بتلك الجماهير التي خرجت وراعتها عملية التصفية الجسدية لدرجة التأليب على السلطة الوطنية الفلسطينية ورأسها ودعوته بالتنحي والرحيل.
لكن ذلك كله، يبقى في إطار البيت الداخلي الفلسطيني، في إطار المعالجة ضمن الجبهة الداخلية الفلسطينية، لا أن نستنجد بأي دولة غربية أو إقليمية أو عربية، أو حتى نزيد من حالة التوتر والغليان بيننا ونتساوق مع هذا التسريب الإعلامي الصهيوني المبرمج الذي لا يهدف الى تقديم الخدمة والنصيحة لنا والجميع يعلم ذلك تمام العلم. وهناك من يستغل حتى الأحداث الداخلية ويطوّع تداعياتها لتقويض الكينونة الفلسطينية.لقد عرفنا جميعا تجارب كثيرة، ولا أحد يزاود على أحد، لقد عرفنا السجون العربية والإسرائيلية، التي كان يطلب فيها رجال المخابرات من أي معتقل من بيننا أن "يستنكر" مثلا منظمة التحرير الفلسطينية أو حزبه السياسي وينشر ذلك في الصحف المحلية مقابل إطلاق سراحه فورا، وكان الرفض من السواد الأعظم، فلست أنت أيها التابع من يملي علينا وعلى كرامتنا وعزتنا ونضالاتنا مثل هذه الإملاءات. كان الاحتلال داخل السجون الصهيونية يستدعي المعتقلين ليمرر لهم خبرا ما ، معلومة ما، دسيسة ما بغية أن يقوم المعتقل بنقلها الى باقي المعتقلين، وكان الإحتلال يجلل بالخيبة والخزي عندما يعود المعتقل ولا يتفوه بكلمة حفاظا على الجبهة الداخلية حتى داخل السجون والمعتقلات الإسرائيلية.
ذلك كان المحرك، ذلك كان الهدف، الجبهة الداخلية وثباتها وعدم إحداث أية اختراقات فيها والرد على كل مروج لأي خبر بالقول " أن ذلك شأن داخلي لنا وليس من شأنك".
لكن ذلك كله أيها الأعزاء، لا يعني بأي حال من الأحوال أن " يمدد" أصحاب صنع القرار لدينا " أرجلهم" ويشعرون بالارتياح أنهم مهما فعلوا، فلن يحصل رد فعل جماهيري لأن الجماهير تعي أهمية الحفاظ على الجبهة " الداخلية". نحن بحاجة الى أن تجري القيادة الفلسطينية تقييما حقيقيا لأدائها ونهجها وأيضا إحداث " انقلاب جذري" في كل أوجه أنشطتها تعيد ثقة المواطن بسيادة القانون واستقلال القضاء وبالهرمية الإدارية في كافة المؤسسات الرسمية و تستنهض الممارسات القانونية والشفافية بما فيها الملاحقة القضائية لكل شخص تصرف خارج الصلاحيات والمنظومة الإدارية والقانونية، وارتكب فعلا يستحق الملاحقة الجزائية، وانتهج نهجا استراتيجيا يتعلق بالسلامة الصحية والبدنية والذهنية والنفسية للمواطن الفلسطيني، والرقي بالخدمات التعليمية والإجتماعية وإرساء أسس صحيحة من تكافؤ الفرص واستبعاد المحسوبيات والواسطات وتطوير منظومة التشريعات الفلسطينية.
وللحديث تفاعلاته ..... كي لا نؤكل جميعنا ... كما أكل الثور الأبيض.