الكاتب: د.احمد رفيق عوض
القاسم المشترك بين سنن التاريخ و قوانين الفيزياء يتمثل في ثباتهما معظم الوقت و في معظم الحالات،ولكن المحير في كلا الامرين انهما ماكران و مراوغان الى درجة التشتت و الاختلاف، نسوق هذا الكلام للقول لاولئك الذين يقفون وراء حصار و تجويع الشعب الفلسطيني ، بغض النظر عن الدوافع و الاسباب ، فالاستنامة و الاستكانة الى قدرة هذا الطرف او ذاك على السيطرة او الضبط او القمع او الهندسة او التطبيع او الاخضاع ،انما هي استنامة خاطئة الى حد كبير.
فالوضع خطير بما فيه الكفاية ان لم يزد عن تلك الكفاية بكثير ، و المسرح مهيىء وجاهز لكل الاحتمالات ، فالاحباط السياسي و خيبة الامل من النخب و الفقر المدقع و المنتشر بوتيرة عالية و البطالة بكل انواعها و التفاوت بين المداخيل و التوجهات و المرجعيات، و صلف الاحتلال و عنجهيته التي تفوق الوصف، و عدم قدرة البنى الحالية عن تقديم الردود، و تراكم الغضب و اختزان كل الاهانات و مرارات الاسئلة،كل ذلك يدفع الى احتمالات كثيرة و عديدة ،فاذا اضيف الى ذلك كله تجويع مقصود او غير مقصود،فان التوقعات حسب سنن التاريخ و قوانين الفيزياء واضحة جدا،فالطبيعة و التاريخ، كلاهما يكرهان الفراغ و التوقف و انعدام الوزن ، وكلاهما لا يتوقفان عن الحركة و الدوران ، ولهذا، و بناء عليه، فان حصار الفلسطينيين ماليا انما كان لسبب سياسي، ولا بد و الحالة هذه ان يكون الحل سياسيا ايضا .
بمعنى اخر ، هناك فساد و هناك استغلال و نفوذ ، و سوء استخدام سلطة ، و هناك عدم عدالة في توزيع الميزانية على اجهزة السلطة الفلسطينية ، و هناك انعدام خطط، وعدم استغلال جيد للموارد ، و هناك تشويش مقصود او غير مقصود لافشال الجهود الصادقة ، و هناك –اولا و اخيرا- احتلال يمنع التنمية و يمنع السيطرة على الموارد و كيفية استغلالها، هذا كله صحيح ، ولكنه لا يكفي ليكون ذريعة لهذا الحصار ، و صحيح ايضا ان من الممكن ان تتشارك الحكومة و القطاع الخاص و الجمهور في وضع خطط تقشفية او انقاذية ، توزع فيها الاعباء بما يضمن التساوي و العدالة ،بحيث يقوم القطاع الخاص بتخفيض و تقسيط و اعادة جدولة لاستحقاقاته ،وتقوم الحكومة بما عليها من ترشيد و تصويب و شفافية و محاسبة و مكاشفة ، هذا يفيد ، ولكنه لا يحل المشكلة ايضا ، كما انه لا ينفع دون دعم مالي دولي و عربي،فالسلطة الفلسطينية لا تستطيع ان توفر احتياجات جمهورها و من تمثلهم وحدها ، الحل السياسي اولا و قبل كل شيى .
واذا ارادت بعض القوى الاقليمية و الدولية ، بما فيها اسرائيل، ان تحاصر الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية كما فعلت في غزة ، فان الحلول المبتكرة و المبدعة ستكون مزعجة و غير متوقعة الى ابعد الحدود.ربما كان من المناسب الان ان نتحدث عن تجربة شعبنا في غزة خلال حصاره الذي زاد عن ستة اعوام ، ربما منعنا من الحديث عن ذلك جو التوتر و الاحتقان الذي كان سائدا ، وربما كان ذلك بسبب التنافس السياسي ، اما الان ، وقد وقعنا نحن ايضا في هذا الحصار الظالم ، فان تجربة شعبنا في غزة هي تجربة فلسطينية ايضا ، و قد شكلت نموذجا قد يثير النقاش و الاختلاف ، ولكنه نموذج استطاع البقاء ، و ليس البقاء فقط و انما الرد ايضا.ولهذا،فان استمرار الحصار المالي على الضفة الغربية،سلطة و جمهورا،قد يؤدي فيما يؤدي اليه الى اقتصاد الانفاق و اقتصاد التهريب و اقتصاد السوق السوداء، وهو اقتصاد تدميري و طارد لرؤوس الاموال و الاستثمارات، ويصاحب ذلك عادة انتشار الفوضى الامنية و الاجتماعية،وانهيار ما تم بناؤه طيلة عشرين عاما او يزيد ، وانفجار الوضع تماما في كل اتجاه ، و توزع الخسارات على الجميع كل حسب خطئه و خطيئته، ولكن هذا احتمال من عدة احتمالات . فالتاريخ مراوغ كما هي الفيزياء ايضا، فمن من الممكن ان يؤدي الحصار المالي الخانق و اللئيم الذي نعاني منه الى امر اخر تماما ، فالمستوطنات التي تتمتع بالماء و الكهرباء و التلفون و الطرق المعبدة و آبار المياه و افضل المواقع و اخصب الاراضي و اجمل البيوت قد تشكل مجالا للمقارنة و المفاضلة ، وهذا احتمال قريب ممكن ايضا ، وقد تكون احتمالات كثيرة اخرى مثل : العصيان المدني او انتفاضة تستفيد من عبر و دروس ما سبقها ، و قد تتسلم اسرائيل مفاتيح الضفة مرة اخرى، و هذه احتمالات قريبة و ممكنة ، فلا احد يقبل بالفراغ او التوقف ، و هذه هي سنن التاريخ و قوانين الفيزياء التي تعمل عادة في معظم الظروف و الحالات.