الكاتب: حيدر عيد
قبل عامين تم "حسم المعركة" على جامعة الأقصى من خلال ترسيخ ثقافة سائدة منذ زمن ليس بالبعيد, وتم تطويع الأكاديمي لصالح الفصائلي! كما تم تشكيل مجلس للجامعة جديد يتميز بلون فصائلي واحد. و لكن مع بداية العام الأكاديمي الحالي, و في سياق الحديث عن "مصالحة" فصائلية بين الفصيلين السائدين في الوطن, تم التوصل أيضاً لمحاصصة فصائلية في تشكيلة جديدة لمجلس جامعي جديد. و تباشر الكثير من الأكادميين/ات الذين ليس لهم/ن لا ناقة و لا جمل في الصراع الفصائلي, ثنائي الطابع, خيراً, و إن كان مؤقتاً!.
و الغريب في الأمر أن الجودة الأكاديمية والأمان الوظيفي للمحاضرين/ات و العاملين/ات لم يكونا على أجندة الطرفين المتصارعين! لم يكن إختلافاً على ضرورة زيادة عدد الأبحاث المنشورة في مجلات بحثية عالمية! و لم يكن سباقأ لتحسين الأداء الأكاديمي! أو ترسيخ الأمان الوظيفي لمحاضرٍ يتقاضى راتباً أقل من زميله في جامعة عامة بسبب عدم تطبيق الكادر الموحد في المؤسسات الأكاديمية الحكومية لأسباب لا زال/ت المحاضر/ة ت/يحاول فهمها!
تباشر البعض خيراً بوصول الطرفين لمعادلة مقبولة من كليهما تضمن تسيير حالة الجامعة و تعكس مبادرات حسن النية بين كل من رام الله و غزة و بداية الحديث عن إمكانية تحقيق وحدة وطنية.
و لكن, و بالضبط كما حصل في حوارات الفصيلين الكبيرين, تم اتخاذ خطوات انفرادية أدت إلى العودة الى المربع الأول. فمع بداية الفصل الأكاديمي الثاني قام مجلس الجامعة الجديد باصدار قرار يتعلق بلباس الطالبات و فرض معايير شبيهة بتلك التي تُطبق في الجامعة الإسلامية غير الحكومية و التي تتميز بتوجه أيديولوجي واضح.
و بما أن الغالبية الساحقة من أكاديميي/ات و إداريي/ات الجامعة يتلقون رواتبهم من حكومة رام الله ,علمانية التوجه, فإن الأخيرة, من خلال وزير التعليم العالي, أصدرت قراراً يلغي القرار الصادر عن إدارة الجامعة و المدعوم من وزارة التعليم العالي في غزة!
و من الواضح أن رد فعل وزارة رام الله اعتمد على القوانين الأساسية الفلسطينية التي تشكل القاعدة القانونية لقرارات السلطة الفلسطينية بشقيها. و من خلال تصريحات المسئولين في الجامعة, اتضح أن القرار بالزام الطالبات بلبس "زي محتشم" قد تم تجميده.
و تباشر البعض خيراً, مرةً أخرى!
و لكن قامت وزارة التعليم العالي في غزة بتعيين "مجلس استشاري" بدلاً من مجلس الأمناء المعين من قبل "الحسم", و بدون التشاور مع وزارة رام الله حيث أن وضع المصالحة الوطنية مجمد الآن, و بالتالي فإن و ضع الجامعة يعود الى سابق عهده, أي التنازع على الصلاحيات!
و من الطبيعي في هذه الحالة أن يكون هناك رد فعل حاد من قبل وزارة التعليم العالي في رام الله. فقد قام الوزير يتجميد المكافآت المالية التي تم صرفها للمؤسسات الأكاديمية الحكومية الأخرى, و يتم الحديث الآن عن تجميد, و البعض يقول قطع, المعاملات الإدارية و المالية للجامعة!
ماذا يعني ذلك؟
قبل الإجابة على هذا السؤال يجب التذكير أنه و منذ "الحسم" الذي حصل قبل عامين, فقد تم تجميد كل الترقيات الأكاديمية و منع توظيف أكاديميين/ات وإداريين/ات جدد. مع الأخذ بعين الإعتبار أن عدد طلاب و طالبات الجامعة قد تخطى ال 25000. و عليه فإن عملية التطور الأكاديمي الضرورية لكل أكاديمي/ة أصبحت على المحك, و أصبح البحث العلمي لا يعني الكثير الا للمنصب الإجتماعي الذي أصبح, و لأسباب كثيرة, أكثر أهمية من مضمون المنصب الأكاديمي! و من المعروف أنه من أبجديات التطور الجامعي, و حسب ترتيب الجامعات العالمية, فإن أهم المقاييس التي يتم اتباعها في تقييم مؤسسة أكاديمية هو عدد الأبحاث, الأوراق الأكاديمية, و الكتب التي يقوم السلك الأكاديمي التابع للجامعة بنشرها. و التي تؤدي الى المعيار الثاني المهم و هو عدد الأساتذة برتبة بروفسور و أستاذ مشارك و أستاذ مساعد...الخ هذا كله لم يؤخذ بعين الإعتبار لصناع القرار على الإطلاق.
و للإجابة على سؤال ماذا يعني تجميد المعاملات الإدارية و المالية, فإنه و بكل بساطة يتخطى الخطوات العقابية السابقة و يستهدف بشكل واضح الأكاديمي/ة المواظب/ة على عمله/ا بشكل دائم و الذي لم يشارك أو حتى يُستشار في كل القرارات و الاجراءات التي تم اتخاذها من فرض "اللباس المحتشم" الى تعيين "مجلس استشاري" جديد.
لم يتم أخذ رأي الأكاديميين/ات بالمطلق, في حدود علمي, مع العلم بوجود تنوع فكري, ايديولوجي, سياسي بين الأكاديميين/ات. و هذا بحد ذاته حالة صحية للغاية. و الحقيقة أن هذا ما ميز الجامعة عن غيرها من الجامعات في غزة لفترة طويلة حيث أن الإقصائية الفكرية لم تكن سائدة لفترة.
و الآن يدفع الأكاديمي/ة, و بالتالي الطالب/ة, ثمن قرارات لا ناقة له/ا فيها و لا جمل. و من الواضح أن القضية تأتي في سياقات تناحرية اقصائية لا تأخذ بعين الإعتبار أهمية استمرار العمل الأكاديمي للجامعة بشكل صحي. كيف يمكن تحقيق ذلك تحت هكذا ظروف؟ و في ظل قرارات تعاقب الأكاديمي/ة من خلال تهديد أمنه/ا الوظيفي؟ و لماذا يتم حشره/ا في صراع هو/ى غير مسئول/ه عنه؟ و لماذا لا يؤخذ بعين الإعتبار تأثير ذلك على العملية الأكاديمية برمتها؟ و تاثيره على 25000طالب/ة؟
إن فسخ العقد الإجتماعي بين الأطراف السياسية الفلسطينية, و الذي أخذ منحىً انتحارياً على صعيد القضية, يتم فرضه على القاعدة بشكل أصبح مقلقا للغاية و بأبعاد وجودية! إن أهم ما يجب أن تتميز به الأكاديميا الفلسطينية هو العمل على تحرير العقل الفلسطيني و بشكل ثوري لا يرضى بمساومات على انجازات سابقة تربينا عليها. و أهمها أن التعليم, و بالذات الجامعي, هو فرض عين لا جدال على أهميته و أولويته. فقد قامت جامعاتنا في الثمانينيات و التسعينيات من القرن المنصرم بتفريخ الوعي الثوري الذي أطلق شرارة الإنتفاضة المجيدة. و ما الغالبية الساحقة من جيل القادة الثاني الا خريج هذه الجامعات.
ما العمل؟
إن كان هناك جدية في الدفاع عن المصلحة العامة, يجب تجنيب الأكاديمي/ة و الطالب/ة كل المماحكات الفصائلية غير الأكاديمية. و على الإداري/ة و الأكاديمي/ة نزع ثوبه/ا الفصائلي قبل دخوله/ا الجامعة. و بما أن من يسير أمور وزارتي التعليم العالي هم أساساً من السلك الأكاديمي, فإنه يتعين عليهم العمل على إيجاد صيغة لا تعاقب الأكاديمي/ة في الجامعة. إن المحاضر لا, ولم, يُستشر في كل هذه القرارات, و الغالبية منهم/ن سمع عنها إما من خلال الإعلام,و في الغالب من خلال الإشاعات و العلاقات الخاصة!
و بدلاً من أن يكون السؤال: هل سيتم قطع راتبي الشهر المقبل؟ أو متى سيتم ترقيتي بعد نشر العديد من الأبحاث؟ يجب أن نتساءل: ما هو آخر بحث ساهمت في كتابته؟ ما هي الفكرة الجديدة التي أستطيع توصيلها لطالباتي و طلابي؟ كيف أساهم في تحرير العقل الفلسطيني؟
نعم للتنافس الشريف. نعم للتعددية السياسية و الأيديولوجية. نعم للتنوع الثقافي و الفكري. و لتكن جامعاتنا حصون تكفل الأمان الفكري و الوظيفي للأكاديميين/ات المساهمين/ات الرئيسيين/ات في تشكيل وعي الجيل القادم الذي نعول عليه في مواصلة التحرير.
و لكن بدون عقل حر, يصعب تحرير الأرض.