اطلس- فنانان شابان ولدا في ظروف قاهرة وعاشا فصول واقع مجاف، لكنهما صمدا أمام الاستلاب الثقافي، بالانحياز لتراث ضارب الجذور في التاريخ البعيد، من نبعه نهلا، ومن غناه استمدا قوة الاستمرار.
وفي أول فرصة أتيحت لهما للخروج من مربع الحصار، انطلقا بصوتيهما في رحاب عالم عربي، كانا يتوقان للتحليق في فضائه، فاصطدما بتحديات تجربة مختلفه، حيث استوعبهما وتحمس لموهبتيهما فريق على الساحة العربية، والتبس الأمر على فريق آخر تجرأ على قذفهما بنعوت وأوصاف ظالمة، في عملية خلط ساذجة بين بطاقة الهوية المفروضة، وبين الانتماء الوطني والقومي، وكأن هذا الفريق حصر الانتماء. في اسم ولون بطاقة الهوية والجهة التي صدرت عنها.
انصفهما الفريق الأول لانه قرأ تجربتيهما قراءَة صحيحة، قرأها سياسياً وجغرافياً وثقافياً فانحاز لهما واحترم شجاعتيهما والاستعداد لدفع استحقاقات الموقف والخيار.
أما الفريق الثاني فقدم قراءَة سطحية كيدية عبرت عن حقدها في مساحات لا بأس بها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لان هذا الفريق طالما عانى حالة تيه في الوان بطاقات الهوية التي تصنف الفلسطينيين قسراً ديمغرافياً وجغرافياً، متناسياً أو متجاهلاً ان الهوية الحقيقية لا يعبر عنها بلون بطاقه، وانما بالتكوين النفسي والثقافي والتاريخ الطويل في سيرورة وصيرورة الوجود المادي الاجتماعي الذي هو أساس الوعي.
الهوية هي اللغة "انا لغتي" كما قال يوماً الشاعر الكبير محمود درويش. وتقاس كذلك بكيفية رؤية الانسان للوطن وتحويل هذه الرؤية الى فعل يمارس يومياً من هدي هذا الوطن.
الهوية هي علاقة خاصة جداً بالتفاصيل الصغيرة التي تتشكل منها حياة الانسان الفلسطيني، غرفة النوم، المطبخ، المكتبة، الحاكورة، الحارة، الحي، المدرسة، القصيدة، صوت الأذان، جرس الكنيسة، الجار ، الاتراب، قصص الجدة، تجاعيد وجه الجد التي حفرتها معاناة طعمها أمر من العلقم.
الهوية الحقيقية، هي اغنية، مسرحية، موال، انغام عود، لحن شبابة، تهليلة أم لوليدها المسترخي في حضنها. الهوية شجرة زيتون ودالية عنب وعتبة دار وحبل غسيل وقطة تستأنس مطمئنة بالصغار والكبار. وهي كلمات مكتوبة بالصمت، وصمت يصرخ من " قحف الرأس".
الهوية هي ذلك الرد الموجز، المكثف، الغاضب، الحزين، المعاتب، المتحدي، الذي ودعت به منال موسى اولئك الذين شككوا في فلسطينيتها: " دمي فلسطيني"، والمقصود بالدم الجينات الوراثية على المستوى المادي الفيزيائي والمستوى المعنوي الروحي الثقافي والفني والأخلاقي والحقوقي.
لا بأس إذا عبر موهوب فلسطيني عن موهبته وانتمائه من خلال برنامج تجاري او ترفيهي أو من خلال برنامج جدي، فالمطلوب استثمار الفرص المتاحة، كل حسب امكاناته وتخصصه، وبالفن ايضاً نستطيع ايصال رسالتنا الوطنية والانسانية، وتأكيد قدرتنا على الابداع، حتى لو تكالبت واجتمعت قوى الظلام والقهر لمنعنا من ذلك، فالابداع اقوى من بوابات حديدية ثقيلة واسلاك شائكة وقوائم ممنوعات.
هيثم خلايله ومنال موسى، اختارا تمثيل فلسطين طوعاً، واستجابة لقناعات وطنية، فتمكنت منال من الوصول الى مرحلة متقدمة، وكانت الفتاة العربية الأخيرة في مشوار المباراة الفنية، ولم تخسر التجربة، بل فازت بما حققته لبلادها ولها. اما هيثم فنجح بامتياز في الحلقة الأخيرة وعن جدارة في استقطاب مديح لجنة التحكيم وتسليط الضوء على موهبته التي صقلها بالمراس والتعلم السريع، وها هو يسير على درب النجاح وصولاً إلى تحقيق الهدف، متتبعاً الخطوات الواثقة التي ميزت تجربة الفنان محمد عساف.
والحقيقة ان الحماس الذي نبديه لفنانينا ومبدعينا ليس اغراقاً في الإقليمية او انشداداً لحلقات التقسيم الجغرافي لعروبتنا، وانما انحياز للثقافة والابداع، بخاصة وهما ينبثقان من الهوية ويتفاعلان معها تغذية راجعة في علاقة جدلية رائعة، لا سيما وان هناك من يزعجه الصوت الطربي الفلسطيني، فيحاصره كما حاصر من قبل الكلمة المكتوبة، مضيقاً على الادباء في محاولة لحبسهم في اقفاص ذواتهم.
فانتصرت الكلمة على القيد ونجحت في الوصول الى كل بقاع العالم، بعد ان ترجمت اشعار درويش والقاسم وقصص كنفاني الى عديد اللغات الانسانية.
واستناداً الى تجربة النجاح هذه ، فان الصوت الطربي قادر وهو مفعم بفلسطينيته، ان يكسر الحصار، مستفيداً من تكنولوجيا العصر وانفتاح افق الفضاء.
هيثم خلايله الذي يبحر بقاربه من مرحلة الى أخرى، يشكل قصة نجاح، تسخر من القمقم الذي فُصل لتكبيل الانسان الفلسطيني، مؤكداً ان مارد الإبداع قادر على الخروج الى الدنيا، محملا بحلمه الكبير، حلمه البسيط، الذي ينبىء بتوق الانسان الفلسطيني للعيش بكرامة وحريه، اسوة بباقي شعوب العالم، فعلى هذه الارض ما يستحق الحياة.