اطلس- الازمات التي فككت حكومة نتنياهو الائتلافية، لا تطال الاستراتيجية وانما تتركز في التكتيك، حيث ان الاحزاب على اختلاف مسمياتها، تلتف حول هدف جامع، اسرائيل القوية اقتصاديا وعسكريا والمحمية والمدعومة من قبل الولايات المتحدة، والمقبولة والمستوعبة دوليا، لكن الخلاف بين هذه الاحزاب حول وسائل تحقيق هذا الهدف.
فاليمين المتطرف يرى ان القوة تفرض فرضا، ولاحقا يضطر الآخرون للاقرار بها كأمر واقع، وان يهودية الدولة سيتم قبولها والاعتراف بها في الشرق الاوسط، اذا ما تم ترسيمها وترسيخها بالقوانين والتطبيق، كما فرضت اسرائيل وجودها بالقوة وصارت عضوا في مؤسسات المجتمع الدولي، بينما يرى فريق آخر وهو يميني متشدد في الجوهر وليبرالي من حيث الشكل الخارجي، ان طرح يهودية الدولة واخضاعها للتطبيق، من شأنه ان يقود اسرائيل الى عزلة دولية ويدفع الى تصنيفها في اطار عنصري، وبالتالي تفقد عامل الجذب والتأييد الغربي لها، بعد ان سوقت نفسها سنوات وهي تلبس الزي الديمقراطي. يستعر التناقض الداخلي تحت سقف مصالح اسرائيل ومكانتها، بينما ينكمش اليسار ويتراجع ليقبع في الهامش، بعيدا عن التأثير في السياسة والايديولوجيا، ومن المؤكد انه سيظل هامشيا ومحدود التأثير في المنظورين القريب والمتوسط، ما دام يطرح شعارات ومواقف ضبابية ولم يصل الى مستوى اتخاذ القرارات الشجاعة والحاسمة، لاسيما وان الانتخابات المقبلة لا يتوقع لها ان تغيّر في التركيبة السائدة، وانما ستعيد انتاجها تحت قيادة الليكود.
الخلاف الذي اطاح بحكومة نتنياهو ودفع الى انتخابات مبكرة، سببه الرئيس الوسيلة الافضل لجعل اسرائيل اكثر قوة ونفوذا، في حين يهرب المختلفون من الاشارة الى القضية الفلسطينية، متجاهلين تماما، انها تتدحرج وتكبر يوما بعد آخر ككرة الثلج في الحضن الاسرائيلي، لتصل الى حد لا يمكن لهذا الحضن ان يستوعبها مهما استعمل قادة اسرائيل من اجراءات ووسائل.
ويتصرف قادة اسرائيل وكأنهم وحدهم على الكرة الارضية يخططون ويصيغون المواقف دون أخذ اعتبار لأحد، متناسين ان العالم يتغير، وان مقدمات التغيير بدأت تلوح في اوروبا، وان المتمترسين في الماضي سيعجزون عن لجم الحراك الذي يعمل الآن بوتائر بطيئة، لكن الصلف الاسرائيلي، سيسرع قريبا دوران عجلة هذا الحراك، مع استمرار تجاهل حقوق الفلسطينيين المشروعة.
لذلك فإن الاحزاب اليمينية الاسرائيلية المتخندقة في الشعارات والبرامج العدوانية، ستصطدم بعد بضع سنوات فقط، بحقيقة لا يريدون التعامل معها الآن، تتشكل من جملة من المتغيرات الدولية التي سوف تتعارض وتتناقض مع افكارهم وتصوراتهم وبالتالي مشروعهم، وهذه المتغيرات تستند الى مجموعة من العوامل، نورد أهمها:
اولا: صمود الشعب الفلسطيني، فقد ولى الزمن والى غير رجعة، الذي كان يحزم الفلسطيني فيه امتعته ويغادر امام موجات الترهيب والتنكيل، بل إن اهم ما تعلمه من الماضي انه كلما يشتد العدوان، يتعمق ويتجذر الصمود.
وهنا على هذه الارض تتلاحم الديموغرافيا بالجغرافيا، ويصبح النمو السكاني الفلسطيني التحدي الاكبر امام جميع الاحزاب الاسرائيلية، حيث لا خروج منه ولا حلول، الا بدولة فلسطينية مستقلة تجمع وتؤطر وتستوعب هذا النمو الطبيعي.
ثانيا: بقاء القضية الفلسطينية دون حل سيفتح الباب على مصراعيه امام التطرف الديني في الاتجاهين الفلسطيني والعربي والاسلامي من جهة، واليهودي من جهة اخرى، حيث لا يمكن مواجهة ذلك، اذا بقيت القضية الفلسطينية معلقة في السماء بلا حل، واسرائيل لن يكون بمقدورها تحمل تصاعد التيارات والافكار التي تبدو طروحات فصائل منظمة التحرير وحتى الفصائل التي خارجها، ناعمة رومانسية، مقارنة بها، بخاصة وان الأفكار والتوجهات الجديدة لا تخضع للمقاييس والاعتبارات الدولية ولا تقيم وزنا للتكتيك او غيره، فما الذي يمكن ان يفعله قادة اليمين الاسرائيلي في ساحة مشتعلة بالتطرف الايديولوجي، اذا لم يتم الاحتكام للشرعية الدولية والتناغم مع التوجهات الاممية التي تدعم قيام دولة فلسطينية مستقلة ؟!
ثالثا: ليس الشرق الاوسط وحده الذي يتغير حول اسرائيل وفي محيطها، فاوروبا تتغير اخلاقيا وحقوقيا، واستطلاعات الرأي على مستوى شعبي تشير الى تأييد جارف للفلسطينيين، اخذ يعبر عن نفسه في اعتراف عدد من البرلمانات الاوروبية بالدولة الفلسطينية، كما ان الاوروبيين باتوا يدركون ان ما هو مطروح اصلا دولة فلسطينية على 22% من مساحة فلسطين التاريخية، اي اقل من نصف ما ورد في التقسيم الذي طرح في العام 1947.
رابعا: اذا كانت اسرائيل تراهن بالمطلق على قوة الولايات المتحدة، فهذه القوة تتبلور الى جانبها وحولها وعلى بعد منها تكتلات اقتصادية وتحالفات عسكرية، في ظل حضور لافت لروسيا والصين والهند والبرازيل ودول امريكا اللاتينية والاتحاد الاوروبي، الامر الذي سيسقط القطبية الواحدة، لتتعدد الاقطاب على الساحة الدولية، ويغدو من المستحيل ان ينفرد طرف بعينه في فرض هيمنته على العالم وتغليب مصالحه وتحالفاته على مصالح الآخرين.
ندرك ان لدى اسرائيل كثيرا من المحللين السياسيين والاقتصاديين والعسكريين الاستراتيجيين، بيد انهم لاسبابهم الخاصة يتغاضون عن هذه المتغيرات، ويحاولون قراءتها بشكل مسطح، ومن يتجرأ على قراءتها بعمق، تنهال عليه نعوت وتصنيفات اقلها التواطؤ والتناغم مع الاعداء.
ان استمرار تجاهل هذه العوامل، سيجعل من اي ائتلاف حكومي اسرائيلي، مهما كانت الاسس التي يقوم عليها، آيلا للتشظي والسقوط، نظرا لتجاهل القضية الاهم، التي تفرخ الأزمات المتلاحقة للاسرائيليين، الا وهي القضية الفلسطينية، وليس القضايا الداخلية التي يخفون رؤوسهم في رمالها وكأن القضية الفلسطينية موجودة على كوكب آخر.