اطلس- شيئاً فشيئاً، تتقلص الفروق والاختلافات بين كلمتي "التدويل" و"المفاوضات"، ويفقد "المُشاهِد"
القدرة على التمييز بين المفردتين. وتتسرب تدريجيّاً قناعة بأنّ العمليتين متطابقتان فلا فرق بينهما، ولا تؤديان إلى تغيير "المشهد" الفلسطيني.
ويبدو "وقف التنسيق الأمني" مع الإسرائيليين، واحتمالات المقاطعة الدولية والضغط عليهم اقتصادياً إذا تعقدت الأمور، هي ما يدعو للتفاؤل. لكن على الأرض، لا يبدو أنّ هناك أي مراجعة لطبيعة العلاقة مع الإسرائيليين، كما أنّ صفقات الغاز الإسرائيلية-العربية، بما فيها الأردنية، تفيد بأنّ حلم "المقاطعة" وهم.
يضع مسؤولو السلطة الفلسطينية، وكذلك منظمة التحرير الفلسطينية، مفردة "التدويل" باعتبارها شعاراً للمرحلة، وكأنّها رد يتحدى انسداد العملية التفاوضية، ويتحدى إسرائيل، ولكأنها الحل الأخير؛ أو كما قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس: "لم يبق أمامنا سوى تدويل القضية". والواقع أنّ هذا الطرح يثير دهشة عند الفلسطيني وهو يحاول أن يجيب عما إذا كان الذهاب إلى الأمم المتحدة سيغير "المشهد" حقاً.
ما الذي سيحدث لو وافق العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، على الطلب الفلسطيني بتحديد موعد انسحاب، ثم قرر الإسرائيليون رفض هذا؟ وقد قرروه فعلا سلفاً، وأعلنوا هذا. والصيغة الفرنسية أو غيرها، مما يتحدث عن تأجيل عامين أو ثمانية عشر شهراً للقرار الفلسطيني، ما هي إلا نوع من منع الإحراج عن الإسرائيليين والأوروبيين والأميركيين. ولكن حتى لو أصر الفلسطينيون على طلبهم من دون تغيير، فإنّ "الفيتو" الأميركي موجود. ولو لم يُستخدم "الفيتو"، فإنّ اتخاذ القرار الدولي المأمول لا يتضمن أي آليات واضحة لتنفيذه.
إذا أراد "المشاهد" البحث عن التفاؤل بأنّ شيئاً على وشك الحصول، فسيجد في كلمات الرئيس الفلسطيني في جامعة الدول العربية، نهاية الشهر الماضي، بعضاً من هذا، عندما قال: "في حال لم نحصل على شيء في مجلس الأمن، فسنتوجه إلى تحديد علاقاتنا مع إسرائيل، من خلال وقف التنسيق الأمني". كما أنّه سيجد في بعض إنجازات المقاطعة الدولية والأوروبية للمستوطنات واقتصادها أداة قد يتخيل أنّها ستُستخدم حين وصول الموعد المحدد لنهاية الاحتلال، فضلا عن المنظمات الدولية.
لكن أول ما يبدد التفاؤل أنّ الغالبية الساحقة من الفلسطينيين هم بالفعل "مُشاهدون"؛ فلا توجد استراتيجية شعبية للعمل. وإذا ما أثار أحد سؤال "أين الشعب في المواجهة؟"، تكون الإجابة: لماذا ينتظر الشعب أحداً؟ لماذا لا يبادر؟ وهذه الإجابة تنسى أنّ القيادة تكون قيادة لأنها تبادر، ثم تنسى أنّ كثيرا من أوجه المواجهة التي تجري المبادرة لها شعبيا، تتعارض مع الرؤية الرسمية للعمل، وأنّه من دون تنظيم جامع، لن تتكاتف الجهود الشعبية. وما هو مطروح من تدويل يعني تحرك قلة دبلوماسية، بينما يبقى الجميع في موقف الانتظار والمشاهدة. أمّا التهديد بوقف التنسيق الأمني، فهو أشبه بالتهديد بالحرب، وتغيير شكل العلاقات على الأرض. إلا أن من يلوح بالحرب ولو من بعيد، يُعد قواته، ويُجري تدريبات واستعدادات ميدانية وعسكرية، ويقوم باستعراضات وعمليات جس نبض. ولا يوجد شيء من هذا يحدث فلسطينيا؛ فلا تصعيد للعمل الشعبي، ولا حملات شعبية للمواجهة، ولا إعداد لتحولٍ في طبيعة عمل الأجهزة الأمنية، أو الفصائل.. إلخ.
أمّا المقاطعة، فإنّ صفقات مثل صفقات الغاز المتوقعة مع الأردن ومصر والفلسطينيين، تنسف فكرة المقاطعة وفكرة استخدامها أدوات ضغط لإنهاء الاحتلال. إذ لو كان الأميركيون مشغولين، سرا وعلانية، بتسهيل التفاوض على التجارة بين إسرائيل وجيرانها في سلع استراتيجية مثل الطاقة، فهل نتوقع منهم بعد عامين، مثلا، أن يتساهلوا مع ضغط اقتصادي على الإسرائيليين؟ وهل نتوقع أن يشعر الإسرائيليون أنهم في وضع حرج يتطلب منهم إعادة التفكير؟
التفاوض في جوهره يحتاج أوراق قوة تدعمه. وتحييد العامل الشعبي هو تنازل فلسطيني عن أهم ورقة تفاوضية. ولو افترضنا أن هناك خوفا من خروج الحركة الشعبية عن المسار، فإنّ رسم المسار سلفا هو الحل، أمّا الغاؤه فهو "كارثة". وقرار دولي (ما يزال مشكوكاً في صدوره وفي محتواه) من دون آليات ضغط حقيقية لتنفيذه، تجعله مجرد قرار جديد، فائدته العملية غامضة ومحدودة.
المشاهد يطلب أن لا يبقى مشاهداً.