اطلس- زياد ابو زياد
بعد ثمانية وأربعين عاما من حرب عام 1967 لا يمكن الاستمرار بالحديث التقليدي عن الوضع وكأننا في الشهور أو السنين الأولى التي أعقبت الاحتلال لأن مرور قرابة نصف قرن من الزمن على الاحتلال أفرز حقائق ووقائع كثيرة على الأرض
تجعل من الصعب جدا ًتجاهلها والحديث بنفس الكلاشيهات والشعارات الرنانة التي كانت ذات مضمون ثم فقدت مضمونها مع مرور الزمن لتحتل مكانها مضامين أخرى ما زالت غائبة ، كما يبدو ، عن وعي القيادة الفلسطينية.
الدول التي خاضت حرب 1967 لم تعد طرفا ً في الصراع، فمصر التي صعدت الموقف وأغلقت مضائق تيران وجّرت معها الأردن وسوريا إلى الحرب كانت هي الدولة العربية الأولى التي وقعت اتفاقية سلام مع إسرائيل ، وخرجت من حلبة الصراع. والأردن التي كانت تحكم الضفة الغربية بما في ذلك القدس العربية تم إعفاؤها من مسؤوليتها عن استرداد القدس والضفة التي كانت جزءا منها وفي وديعتها وتحت وصايتها بعد أن أصرت منظمة التحرير الفلسطينية في مؤتمر الرباط عام 1974 على انتزاع اعتراف عربي بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. ثم وقعت الأردن هي الأخرى اتفاقية سلام مع إسرائيل بعد أن وقع الفلسطينيون إعلان مبادىء أوسلو وشرعنوا للعرب إقامة علاقات مع إسرائيل وفتحوا لإسرائيل الأبواب الأمامية والخلفية للأسواق الاقتصادية والأروقة الدبلوماسية والأمنية العربية وعلى أوسع نطاق !.
أما نحن الفلسطينيون، فبعد أن أقيمت منظمة التحرير الفلسطينية في الثاني من حزيران عام 1964 بهدف تحرير الأرض الفلسطينية التي احتلت عام 1948 وأقيمت عليها إسرائيل ، ولم تكن الضفة والقدس والقطاع تحت الاحتلال آنذاك ، تراجعت عن برنامجها وأصبحت تسعى لتحرير الأرض التي احتلت عام 1967 أي الأرض التي لم تكن محتلة عند إقامة المنظمة ودخلت في مسار سياسي قائم على مبدأ الاعتراف المتبادل مع إسرائيل ولكن هذا الاعتراف لم يكن اعترافا بين دولتين وإنما قبلت المنظمة أن يتم الاعتراف بها كمنظمة مقابل اعترافها هي بإسرائيل كدولة ، وما زلنا حتى اللحظة نعاني من جسامة هذا الخطأ لأن إسرائيل لم تكن في الماضي وليست في الحاضر مستعدة للاعتراف بنا كدولة لأنها تعتقد بأن الاعتراف بحق الفلسطينيين بدولة يتنافى مع حق إسرائيل في ذلك!!
ولم يقتصر الأمر عند حد التراجع عن شعار تحرير كل الأرض وإنما وقعنا في وقت لاحق عام 2000 في خطأ القبول بمبدأ " تبادل " الأراضي الذي استغلته إسرائيل أسوأ استغلال وفي اتجاه واحد وها هي تنهب أراضي الضفة وتكرس الاحتلال تحت ذريعة أنها تبني في المناطق التي ستُضم إليها!
ولم يقتصر التراجع الفلسطيني في تقليص وتقزيم الأهداف المعلنة للمشروع الوطني بل بدأنا طوعا بالتخلي عن كل الأسلحة المادية والمعنوية والسياسية التي كان يمكن أن تُشكل عامل ضغط على إسرائيل.
فقد تم على الصعيد المادي التخلي عن المقاومة المسلحة ووضعها في دائرة نبذ العنف التي التزمنا بها أمام المجتمع الدولي ، وتم تأهيل الأجهزة الأمنية الفلسطينية تحت شعار المهنية بإقصائها تماما عن البعد السياسي وتحويلها إلى أداة في يد السلطة التنفيذية المحكومة بسقف العملية السياسية وهو أمر لازم وضروري ولا ضير فيه لو تمّ بعد أن وصلت العملية السياسية إلى محطتها الأخيرة وهي الدولة الفلسطينية وليس في الوقت الذي ما زالت تلك العملية تراوح مكانها وتلفظ أنفاسها. وأما على الصعيد المعنوي فقد تم ّ تغيير المناهج الدراسية والتربوية وتقزيمها في إطار الإلتزامات التي فرضتها علينا عملية أوسلو دون أن يلتزم بذلك الجانب الإسرلئيلي.
وأما على الصعيد السياسي فقد تم تفريغ منظمة التحرير من مضمونها وأصبحت هياكل يتم نفخها في المناسبات لأداء أدوار مطلوبة منها وفقدت قدرتها على التأثير والتغيير. ولعل من أهم أسباب ذلك هو أن عددا ً لا يستهان به من فصائل منظمة التحرير لم يعد لها وجود حقيقي على الأرض ولم تعد قادرة على الحصول حتى على مقعد واحد في المجلس التشريعي ، ومع ذلك لا تزال تحتفظ بمقاعدها في اللجنة التنفيذية وفي عدد المقاعد المخصصة لها محاصصة ( كوتا ) في المجلس المركزي والمجلس الوطني ومؤسسات المنظمة الأخرى ، ولا يملك ممثلوها في أطر المنظمة المختلفة قول " لا " لأن قولها يعني فقدانهم لمناصبهم ومخصصاتهم وامتيازاتهم وهذا أمر لا يقدرون عليه!
هذا الوضع المهلهل لمنظمة التحرير أدى إلى ما أدى إليه ووصل بنا إلى حالة حكم الفرد أو ربما بعبارة أدق حكم الفصيل الواحد الذي فقد هو الآخر ديمقراطيته الداخلية وأصبح يخضع لمراكز نفوذ وكوتات وكولسات داخلية معدة مسبقا ومع سبق الإصرار.
وإذا كان هذا هو الحال في الضفة فإن الحال في قطاع غزة أسوأ وأقسى فقد تحول القطاع بعد الانقسام عام 2007 إلى دولة أمر واقع لا صلة لها بالقيادة في الضفة إلا بما تحصله منها من ميزانيات خدماتية ، محتفظة بسيطرتها المطلقة على الأمن والنيابة والقضاء ، ويستمر برلمانها ضاربا عرض الحائط بأبسط نصوص القانون الأساسي الفلسطيني يشرع القوانين ويمأسس دولة الانفصال.
أما على الأرض ، وبعد ثمانية وأربعين عاما من الاحتلال ، فقد قامت إسرائيل بتغيير معالم الأرض ونسفت عمليا ً أية فرصة للحل السياسي القائم على أساس حل الدولتين الذي ما زالت الدبلوماسية الفلسطينية والعربية تُطالب به مع علمها الأكيد بأنه لم يعد ممكنا ً بأي شكل من الأشكال.
لقد شهدت إسرائيل وعلى مدى نصف القرن الماضي تحولات اجتماعية ودينية وسياسية أفرزت أجيالا ً جديدة لا تؤمن بالإنسحاب ولا بالحل السياسي لأنها لا تعرف بلادها بحدود الرابع من حزيران 1967 ، وإنما ولدت وترعرعت على الوعي بأن كل هذه هي أرض إسرائيل وأن العرب هم غزاة غرباء لا بد من طردهم والخلاص منهم .
وعلى الصعيد العربي ، يعيش العرب حالة من التمزق والصراع والحروب الداخلية على أسس عرقية وطائفية تؤذن باستمرار هذه الحروب الدموية عشرات السنين بما تعنيه أيضا من تدمير للبنى الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية سيستمر أثره عشرات السنين. وقد أدى هذا الواقع العربي المأساوي إلى تشجيع إسرائيل عى الاستخفاف بكل المقومات العربية والدولية والعمل الدؤوب على تكريس الاستيطان والضم والاحتلال غير آبهة بالنتائج التي يمكن أن تترتب على ذلك على المدى البعيد وخاصة ما تتبجح به إسرائيل بأنها دولة ديمقراطية أو تطالب الاعتراف به أي بأنها دولة يهودية لأن استمرار السياسة الاستيطانية الاسرائيلية الحالية سيفقد إسرائيل طابعها اليهودي الذي تُطالب الفلسطينيين الإعتراف به ، والديمقراطي الذي تدعيه ولا نُصدقه ، على حد سواء وقد يجعلها تتبع في المستقبل القريب وبشكل أكثر وضوحا ًسياسات قائمة على مبدأ التطفيش والترحيل للفلسطينيين الموجودين تحت سيطرتها.
في ظل هذه الأوضاع يخرج علينا بعض القادة الفلسطينيين يحذرون من سياسات إسرئيل ، ويشخصون تشخيصا دقيقا ً لتلك السياسات ولكنهم لا يقدمون الخطط المنهجية والاستراتيجية لكيفية مواجهة تلك السياسات. ومع أن شعبنا سئم الاستماع لبيانات الشجب والاستنكار والإدانة والتحذير وتحميل إسرائيل المسؤولية و..و..و.. إلا ان تلك القيادات ما زالت تدور في نفس الدائرة كالإسطوانة المشروخة.
بعد ثمانية وأربعين عاما من الاحتلال ، علينا أن نقوم بمبادرات غير عادية وغير تقليدية لنستبق الأحداث ونقول لشعبنا وللعالم ماذا نريد وماذا سنعمل. علينا إنهاء الانقسام وإصلاح أو تغيير النظام السياسي الفلسطيني وفي مقدمته إعادة هيكلة وبناء ونفخ الروح في هياكل منظمة التحرير وتخليصها من الفصائل التي لم تعد قائمة على أرض الواقع ولكنها تشارك في قراراتها أو تستخدم كأدوات لتمرير القرارات لقاء مقابل ، وضخ دماء جديدة مستمدة من القوى والفصائل الموجودة على أرض الواقع ، أما الاستمرار في ترديد الشعارات التي سبقتها الأحداث وباتت من تراث الماضي فإنه سيعني أننا قد فقدنا الصلة مع الزمان والمكان ودخلنا في حالة تيه قد تطول أكثر من أربعين عاما، أي أكثر مما تاه اليهود في صحراء سيناء!