اطلس- لم يعد الإنقسام مجرد حالة عابرة سياسيا، او مرتبطة بأشخاص قد تنتهي برحيلهم، بل أصبحت حالة مركبة معقدة، وعبارة عن بناء من عدة طوابق لا يمكن فصل احدها عن الآخر، وأي حديث عن مصالحة لا بد أن يبدأ من هذا الواقع البنيوي الذي أوجدته سنوات الإنقسام، وساهم فيه بشكل مباشر ضعف البنية السياسية العامة ، وحالة الضعف الفلسطينية العامة
التي أصابت بنية المجتمع ذاتها، والبنية السياسية بما تمثله من قوى وفصائل سياسية عاجزة حتى على الحراك الداخلي، وبنية مجتمع مدني مفككة، وتائهة بين الشخصانية والسيطرة الحزبية ، والقمع الأمني، ومواطن لاهث فاقد البوصلة يبحث عن هويته التي مزقتها حالة الإنقسام، فتحول لمواطن يبحث عن لقمة العيش، وانتظار راتب، وفتح معبر، ويعيش على آمال واحلام يدرك أنها لن تتحقق، لكن تمنحه المبرر للحياة. وبيئة إقليمية ودولية حاضنه للإنقسام وتغذيه بالمال، وبتأييد إسرائيلي صريح وواضح أن الإنقسام هو المطلوب، ويخدم أمن وبقاء إسرائيل.
ورغم ذلك الكل متمسك بالإنقسام كواقع سياسي، وكأن القضية الفلسطينية انتهت عند الحدود التي رسمها الإنقسام في غزة والضفة الغربية ، ويبدو لي ان المعضلة غير المبررة، ان التفكير السياسي الفلسطيني قد انحصر في إطار ما تريده فتح وحماس، وأن هذا التفكير لا يخرج عن دائرة ما يسمى بالسياسة بنظام الغنائم. القضية الفلسطينية بخياراتها التي انحصرت في المقاومة التي توفر الشرعية السياسية لحركة حماس، وخيار التسوية التفاوضية التي تمثل المبرر لإستمرار وجود السلطة في الضفة الغربية هو الذي يفسر السلوك السياسي لكل منهما، فحماس على غير استعداد للتنازل عن بنيتها في غزة، وهي البنية المرتبطة ببنية حركة الإخوان على المستوى الدولي، ولذلك لا بد من الحفاظ على استمرارها ، وكأن بقاء حماس كحركة مرتبط بالحفاظ عليها.
وفي المقابل فتح التي حمت نفسها بالشرعية الثورية، يحكمها نفس التفكير تفكير التملك السياسي الذي يحكم حركة حماس في غزة. وتدار كل من غزة والضفة بأسلوب التملك السياسي في الضفة الغربية، والوقف الإسلامي في غزة، إذن لدينا حالة تملك تقف في طريق اي مصالحة، فالمصالحة بمعنى التملك تعني تملك الشعب لكل مقدراته، وتقرير مستقبله، اي انه في حالة المصالحة توجد ملكية عامة ، وهي مغيبة ، وفي حالة الإنقسام ملكية تنظيمية شخصانية او جماعية .إلا ان معضلة هذه الحالة ان لا يمكن لأي منهما أن يذهب بعيدا في أسلوب التملك، لدرجة الإعلان الرسمي، فهذا تواجهه قيود ومعيقات كثيرة تفرضها حالة الإحتلال الإسرائيلي، وعدم اكتمال الدولة الفلسطينية، وتحكمه بعضا من الخيارات الإقليمية التي قد ترى في استمرار الإنقسام تهديدا لها كما في العلاقة مع مصر والأردن لكل من الكينونتين الفلسطينيتين.
والسؤال ما هو البديل لعدم المصالحة ؟ مع التسليم بصعوبة المصالحة الكاملة التي تستبدل في الكلية السياسية من ملكية خاصة لملكية عامة، يطرح اكثر من تصور. وفي سياق استبعاد خيار المصالحة الكاملة ، وخيار الإنقسام الكامل. وقد تكون معرفة الأسباب والمحددات مهما للوصول للسيناريو القابل للتطبيق، فمن قراءة حالة الإنقسام ارى ان بناء نظام سياسي أحادي وهو القائم حتى الآن، وعدم المشاركة السياسية في بناء منظومة سياسية مشتركة تجد كل القوى السياسية شرعيتها فيها وتجد رؤيتها السياسية فيها، ولذلك الكل يعاني من فقدان الشرعية السياسية الكاملة وهو السبب وراء صعوبة خيار الإنقسام السياسي الكامل، وغلبة التفكير التكتيكي، الذي تحكمه عوامل الوقت والحسابات المؤقتة، والحسابات والرهانات الغيبية واللايقينية، انتظارا لتحولات قد يرى كل طرف أنها قد تعمل لمصلحته تعمل على تمديد حالة الإنقسام.
ولعل العامل الذى يساهم في استمرار حالة الإنقسام استمرار حالة الخلاف والإنقسام على مستوى حركة «فتح»، ولذلك فإن شرطا مسبقا للمصالحة هو مصالحة فتح مع نفسها.والمعضلة التي تقف في طريق المصالحة الكاملة رهن القرار الفلسطيني للحسابات الإقليمية والدولية التي لم يعد للدور والمتغير الفلسطيني أي دور فيها بل المتغير الفلسطيني نفسه تحول لمتغير تابع، وهو ما من شأنه ان يعقد قرار المصالحة. وامام هذا الطريق الذي تكتنفه مصاعب كثيرة، وتحديات لا يمكن لحماس أو فتح ان تقوى على مواجهة الإنقسام، وهذه هي بارقة الأمل الوحيدة، وهي ان «حماس» او «فتح» لا يمكن ان تقوى وتستمر في بيئة إنقسام كاملة، لأن ذلك يفقدهما الشرعية السياسية. وبناءً عليه التمسك بالوحدة الوطنية كخيار إستراتيجي يبقى المخرج للحالة القائمة ، والخروج من عنق الزجاجة التي وضع كل منهما في داخلها، وهو الخيار الوحيد لقرار فلسطيني واحد في مواجهة التحديات الإسرائيلية والضغوطات التي تمارسها الولايات المتحدة.
ففي حالة الإنقسام لا يمكن لحماس بخيار المقاومة ، ولا للسلطة وفتح بخيار المفاوضات ان تواجه الضغوطات الإسرائيلية ، والنتيجة الحتمية هدنة مؤقتة في غزة ، وشكل من الحكم الذاتي الحياتي في الضفة الغربية مع شكل من الكونفدرالية مع الأردن وإسرائيل. ولا بد من التخلص من التفكير قصير المدى والحسابات النفعية الوقتية. والتسلح بالتفكير الفلسطيني الإستراتيجي الذي يشارك الجميع في صياغته. فهذا التفكير التكتيكي لن ينجح في غزة ، ولا في الضفة ، فغزة محاصرة ، والأزمات المالية والإجتماعية تزداد، والحلول التي تفرض لا تشكل حلا جذريا بل من شأنها ان تقود إما إلى تفجر داخلي، او حرب مع إسرائيل، وهما خياران لا يعملان لصالح الحركة.
وبالتالي لا يمكن الإستمرار في الإنقسام، والوضع نفسه في الضفة الغربية التي تتوقف الحكومة فيها على ما تمارسه وعلى مستوى السلطة لا يمكن مواجهة التحديات الإسرائيلية بنفس التفكير، وفي ضوء ذلك لتحقيق المصالحة الكاملة لا بد من عدم المناورة بورقة المصالحة ، وتوظيفها في هذا التفكير القصير المدى ، المصالحة تدخل في نطاق التفكير الإستراتيجي وليس التكتيكي. وخارج من هذه السيناريوهات يمكن البحث فيما يعرف بالإتفاق على الإنقسام او المصالحة الوظيفية، التي يمكن ان توصل الطرفين لخيار المصالحة الكاملة بعيدا عن المباراة الصفرية، والتفكير التكتيكي لكل من حماس وفتح.