اطلس:اليوم الثاني عشر والثالث عشر بعد المائتين لحرب الإبادة على غزة، 5 و6 مايو 2024
جاءت صديقة لقريبتي تزورها للاطمئنان بعد أن علمت بطريق الصدفة أنّها ما زالت في مدينة غزة. حالُ هذه السيدة يشبه حال الغالبية العظمى من النساء اللواتي يعشن وجع انتظار انتهاء العدوان الصهيوني الفاشي، والذي لم يترك بيتًا على حاله، لا حجارة البيت ولا نفوس وحياة ساكنيه وساكناته.
جرى حديثٌ طويلٌ بين السيدة وقريبتي حول الأحداث والظروف العامة والخاصة. كنتُ أستمع لهما صامتة وأتأمّل التفاصيل المرويّة، ولم أستغرب لحظةً حجم ألمها الذي حاولت جاهدةً إخفاءه، فقد اعتادت النساء عدم البوح عن معاناتهن إلّا للمقرّبات منهن. لفت انتباهي في حديث السيدة جملةً صعبةً توحي بالإحساس بالوحدة رغم كُلّ المحيطين بها من أبناء وبنات وأحفاد، حيث قالت: "تعوّدت ما أطلب من أي حدا شيء، لأنه في هذه الظروف كُل واحد بيفكّر بحاله وبس". ثمّ استطردت: "الله يعين كُل واحد على نفسه، يعني ابني بيصرف على عيلته وبنتي بتفكّر بعيلتها، طيب انا بأقدرش أقولّه أو أقوللها هاتوا أعطوني".
فهمت من حديثها أنّ بيتها نصف مُدمّر وأنها تعيش حاليًا في بيت ابنها الذي نزحت زوجته وأولاده نحو رفح، وفي ظلّ الحديث عن الأخبار الجارية وعن احتمال توقيع اتفاق للهدنة قد يضمن عودة النازحات والنازحين، قالت: "طلبت من ابني يسجّلني عشان آخد كرفان، بيقولوا بدهم يوزّعوا كرافانات، بأعيش فيه على بال الله ما يفرجها ويعمّروا لنا البيت". ردّت عليها قريبتي: "انتي هلّق في بيت ابنك خليكي معاهن"، قنظرت لها السيدة وقالت: "هذه الحرب ما خلّت حدا يقدر يعيش مع حدا، أحسن الواحد يعيش لحاله". آخٍ كم يحمل هذا الرد من معاني الألم والشعور بالوحدة والتخلّي.
صديقتي المقرّبة في رفح قالت لي: "الواحد خجلان والله يحكي عن وجعه وإحنا شايفين الوجع الكبير اللي في مدينة غزة والشمال، بس والله إحنا كمان تعبانين من هالعيشة، كُلّها خوف من تهديدنا بالاجتياح البري، وخوفنا من قصف البيوت ليل نهار ويمين وشمال، كُل واحد فينا بيحسّس على رأسه وبيسأل حاله متى جاي عليه الدور". صمتت ثم عادت إلى الكلام بحرقة: "الكُل كان امبارح وأوّل امبارح بيطبّلوا وفرحانين بس صار خبر عن الموافقة على الاتفاق، والناس حضّرت شنطهن وأكياسهن على أمل الرجعة". واستطردت: "صدّقيني لما أقولك إنّه الواحد نفسه يدخل حمّام بيته، والله بطّلنا نشرب مياه عشان ما نروح الحمّام من كثر الزحمة على الحمّامات، واشتقنا لأغراضنا، والواحد ظهره بيوجعه من النوم على الأرض، وإحنا بنستنى الرجعة، الله بيعلم شو بدو يصير معنا أمراض".
علمت أنّ صديقةً أُخرى نازحة في رفح تدهورت حالتها صحيًّا ونُقلت إلى المستشفى بسبب ألمٍ في عضلة القلب. اتصلت بها وأخبرتني عمّا أصابها، وحين سألتها عمّن اهتم بها في المستشفى، قالت لي وهي تلهث "منيح إنّه لسه الواحد معه فلوس عشان يقدر يشتري الخدمة، انتي عارفة الوضع، ما في حدا تموني تطلبي منه إشي، الله يعين كُل واحد على حاله. في هذا الزمن المثل ما كذب: الصديق وقت الضيق، ولم يقل القريب وقت الضيق".
"الله يعين كل واحد على حاله" هي نفس الجملة التي تختم بها كُلّ النساء حديثهن بيأسٍ من الآخرين. أنا أيضًا أصبحت أكرّرها مع الوقت، وقد عشت تجاربًا تُشبه ما مرّت بها صديقاتي، خصوصًا عندما كنت أعيد ترتيب بيتي وتنظيفه من آثار القصف والفئران ووجدت أنّ الأفضل عدم إزعاج من حولي واستأجرت عمّالًا لهذا الغرض، وعندما يسألني أحدٌ عن الأقارب، أردّ: "هم ساعدوني في أشياء أخرى والله يعين كُل واحد على حاله".
تقول صديقتي وزميلتي في العمل أيضًا أنّ قصص النساء في أماكن النزوح مؤلمةٌ ومُحبطة في آنٍ واحد، فإحدى السيدات مثلًا طلّقها زوجها في لحظة غضبٍ، وقد جرى إصلاح الأمر بين الزوجين فقط بعد جهودٍ مُضنية، خصوصًا أنه لا يوجد أحدٌ من عائلة الزوجة في مكان النّزوح.
قالت لي الأخصائية التي تُنفّذ جلسات دعمٍ نفسي واجتماعي للسيدات: "أنا محتاجة تكون معي المحامية، لأنّ كُلّ النساء تسألُ سؤالا واحدًا، ألا وهو (متى يكون يمين الطلاق صحيحًا؟)"، ولدى الاخصائية شعورٌ أنّ كُلّ هاتي النساء قد أصبحن مطلقات وربما دون رجعة، نتيجة المشكلات في العلاقات الأسرية التي تفاقمت بسبب هذا العدوان الغاشم واستسهال الكثير من الرّجال لحلف يمين الطلاق على زوجاتهم أثناء موجات غضبهم.
وللأسف، ها هي المفاوضات تنتهي دون اتفاقٍ على هدنة أو وقفٍ لإطلاق النار، وها هي حكومة الحرب الفاشية بدأت بتصعيد عملياتها في رفح وتعلن بدء الهجوم البرّي، وذلك بشنّ عشرات الغارات على المنازل المأهولة حيث وقع العشرات شهداءً وجرحى، غالبيتهم كالعادة من الأطفال والنساء والرجال الشيوخ، كما أمر الجيش السكّان والمُقيمين بالنزوح نحو منطقة المواصي غرب خانيونس.
مرّةٌ أخرى تتكرّر حالة الانتظار دون وضوح الرؤية، ومرّةٌ أخرى اللوحة تنقلب إلى آلامٍ وأوجاعٍ تلحق بالشعب وبالنساء خصوصًا. إلى متى؟
زينب الغنيمي، من مدينة غزّة تحت القصف والحصار