كباقي الدول الغربية والعربية على حدٍ سواء، أزمة حقيقية تتفاقم عامًا بعد عام، نتيجة لظهور شبكة الإنترنت وثورة الاتصال والمعلومات، واحتدام المنافسة بين الصحف المطبوعة والإلكترونية، خاصة أن الأخيرة زاد الاهتمام بها مع تغير عادات القراء مع ظهور جيل الإنترنت الذي لم يعد يتعامل مع الصحف المطبوعة بنفس شغف تعامله مع الصحف والمواقع الالكترونية.
ولم يتوقف تراجع الصحف المطبوعة أمام الصحافة الإلكترونية على التوزيع، بل وصل إلى حد إغلاق بعض الصحف وتحولها إلى صحف إلكترونية. بالإضافة إلى ما سبق، تواجه الصحف المطبوعة مشاكل أخرى، أبرزها: ارتفاع أسعار الورق، والأحبار، والمواد الأولية، ومصاريف التوزيع، وقلة نقاط البيع، وانخفاض عدد القراء بسبب عدم الاقبال المتزايد على الصحف المطبوعة، وهو ما كبدها خسائر فادحة وصلت إلى ملايين الدولارات، وهو ما دفعها إلى تقليص نفقاتها من خلال تسريح عدد من العاملين فيها، وتخفيض عدد صفحاتها بنسب مختلفة، وإيقاف العدد الأسبوعي، والملاحق الخاصة.
وبخصوص التحديات التي تواجه الصحافة المطبوعة في فلسطين، فإن أبرزها تتمثل في الآتي:
* الحريات والخطوط الحمراء التي تقف حائلًا أمام الصحف المطبوعة، وتحول دون تناول الموضوعات بحرية وشفافية وموضوعية بعيدًا عن الضغوط السياسية والحزبية، وهو أمر استطاعت أن تتجاوزه الصحافة الإلكترونية، نظرًا لعدم تقيدها بالتشريعات التي تحكم عمل الصحافة المطبوعة، وقدرتها على تخطي الحدود الجغرافية والموانع السياسية.
* الطفرة الهائلة في مجال تكنولوجيا الاتصال، وعدم قدرة الصحف الفلسطينية على مجاراتها ماليًا ومهنيًا والاستفادة منها في مجال إعداد الصحيفة وتصميمها وإخراجها.
* ارتفاع تكاليف النشر، نظرًا لغلاء الورق المستخدم في الطباعة، وهو ما يمثل عبئًا حقيقيًا على مالك المطبوعة سواء كان فردًا أو مؤسسة أو حزبًا، وتبرز هذه المشكلة بشكل أكبر مع الصحف التي تصدر في غزة، فقد اضطرت في كثير من الأحيان إلى الطباعة على ورق أبيض، لعدم وجود ورق جرائد بسبب الحصار المفروض على غزة، وهو ما كبدها خسائر إضافية.
* تراجعت أرقام توزيع الصحف المطبوعة بدرجة كبيرة، نظرًا لعدم قدرتها على منافسة الوسائل الأخرى في مجال الأخبار، وهي الوظيفة الرئيسية للصحافة منذ الحرب العالمية الثانية، وهو ما دفع القراء إلى الاحتفاظ بقروشهم، والتخلي عن الصحف المطبوعة، والتوجه نحو الإلكترونية، خاصة مع شيوع ثقافة الحصول المجاني على المعلومات.
* انخفاض عائدات الصحف من الاعلانات، التي تتحرك بسرعة تجاه شبكة الإنترنت.
* أزمة القراءة التي تشتد يومًا بعد يوم، رغم أنها أزمة عالمية، إلا أنها أكثر ضراوة في واقعنا العربي عامة، والفلسطيني على وجه الخصوص، ومما عمق من هذه الأزمة هو عدم قدرة الصحف المطبوعة على جذب القراء بصريًا مقارنة بالوسائل الأخرى، الأمر الذي زاد من التحديات التي تواجهها، خاصة مع ظهور أجيال جديدة تربت على الفضاء الإلكتروني، وتغير عادات وأنماط القراءة لدى الشباب.
* عدم تطوير الصحف المطبوعة لمحتواها، بما يضمن تفوقه على السبق الإلكتروني، الذي أصبحت المطبوعة عاجزة عن الوصول إليه، في ظل ثورة وتكنولوجيا الاتصال، وبروز منصات ووسائل إعلامية جديدة، لا تستطيع الصحف المطبوعة مجاراتها في هذا المجال.
* نقص خبرات الصحفي، وعدم قدرته على الاستغلال الأمثل لتكنولوجيا الاتصال في دعم ما يقدمه من مواد تحريرية، تشبع رغبات القراء، وتلبي حاجاته وتطلعاته، كما أن القائمين على الصحف المطبوعة لم يغيروا ويطوروا صحفهم، ولم يرسموا الخطط التي تأخذ بعين الاعتبار التحديات الماثلة أمام أعينهم، والأخرى المحتملة، بما يضمن استمرار صدورها وتطورها.
إن هذه التحديات التي تواجه الصحافة المطبوعة في فلسطين وغيرها من البلدان، التي أدت إلى توقف بعضها عن الصدور، والاكتفاء بالمواقع الالكترونية، أو تراجع توزيعها ومدخولاتها، لا يعنى اصدار شهادة وفاة لها، فهي باقية على المدى المنظور، ولكن السؤال كيف نواجه هذه التحديات؟ وما المستقبل الذي ينتظرها؟
إلى ذلك، فإنه في عام 2000 أجريت دراسة على المشتركين في الشركة الفلسطينية لخدمات الانترنت، وهي تضم حوالي نصف المشتركين في شبكة الانترنت في قطاع غزة آنذاك، نشرت هذه الدراسة في مجلة علمية مشهورة في مصر، حاولت من خلالها الإجابة السؤال الكبير الذي طرحته آنفًا حول مستقبل الصحافة الورقية في فلسطين، وعما إذا كان لها حظا من البقاء، أو التكيف مع المواقع الكترونية، والهواتف الذكية، وشبكات التواصل الاجتماعي، وكانت أبرز نتائجها كالآتي:
* أن حوالي 47 % من عينة الدراسة يعتقدون أن تأثير قراءة الصحف الإلكترونية على المطبوعة يتراوح بين قليل ولا يؤثر.
* أن حوالي 65% من عينة الدراسة يؤيدون بشكلٍ أو بآخر قراءة الصحف بعد الاشتراك في شبكة الانترنت.
* أن حوالي 82% من عينة الدراسة ظلوا يشترون الصحف المطبوعة بصفة دائمة أو أحيانًا، علمًا أن الذين يشترونها قبل الاشتراك في الانترنت حوالي92%، وهذا يعني أن الذين لا يشترونها بعد الاشتراك في الانترنت تتراوح نسبتهم ما بين 11%- 19%، ولعل ذلك يرجع إلى عدة أسباب، أهمها:
أ. أن الصحف الإلكترونية في فلسطين عام 2000 كانت تصدر بعد المطبوعة زمنيًا، خشية التأثير على بيعها، أما اليوم فلقد تغير الوضع، إذ أصبح لبعض الصحف مواقع إخبارية إلكترونية أون لاين، إضافة إلى تحسن إمكانياتها اليوم مقارنة بحالها في الفترة الماضية.
ب. قدرة الصحف المطبوعة على تقديم موضوعات تفسيرية وتحليلية أكثر من الالكترونية في حينه، خاصة أن الأخيرة كانت تعمل بنظام PDF، وتضع بعض موضوعات المطبوعات على صفحاتها.
ت. أن الصحف المطبوعة تمثل خيارًا حرًا للقارئ، وتستحوذ على ثقته، فهي تتمتع بدرجة مصداقية أعلى من الصحف الإلكترونية، وهو ما أكدته العديد من الدراسات والأبحاث، كما أن قراءتها تشكل عادة وتقليدًا يوميًا، يحرص عليه القارئ لارتباطها بنظام حياته.
مقترحات وحلول:
توجد مجموعة من المقترحات والحلول التي استخدمتها بعض الصحف وحدت من تدهور أوضاعها، أهمها:
* اندماج بعض الصحف مع بعضها البعض، وبين الصحف والوسائل الأخرى كالتلفاز والراديو والمواقع الإلكترونية.
* أن تغير الصحافة الفلسطينية المطبوعة وظيفتها الإخبارية، التي لا تستطيع منافسة الوسائل الأخرى فيها، وتتجه نحو صحافة الرأي والمقال والتحليل والتفسير والاستقصاء، وتناول موضوعات خدماتية وتفاعلية تتناسب مع الأجيال الناشئة التي فقدتها الصحافة المطبوعة، وذلك بما يتماشى مع الاتجاهات الحديثة في الصحافة، التي تجسدت في عدة مدارس وتيارات تستجيب لطبيعة العصر أبرزها: صحافة التحديد، وصحافة الخدمات، والصحافة الجديدة، والصحافة المستعينة بالحاسب الآلي.
* الاهتمام بالشأن المحلي كما فعلت صحف عدة في أوروبا وأمريكا، حيث اتجهت نحو الأخبار المحلية والخدماتية التي تهتم بالتفاصيل وتتعلق بحياة المواطن اليومية، مثل: الموضوعات المحلية والمناطقية، وخدمات المرور، والبورصة، والعقارات، والمدارس، والمستشفيات، والأسواق، والعروض التجارية وغيرها.
* الاهتمام بأساليب الكتابة الصحفية الحديثة، التي أفرزتها مدرسة الصحافة الجديدة (الأدبية) التي جاءت ردة فعل لحاجة الجمهور لأشكال حديثة لمواجهة الأشكال التي أفرزتها وسائل الاتصال الإلكترونية، وهي تسمح للمحرر باستخدام مداخل أكثر إبداعًا في التغطية الخبرية.
* تتجه الصحافة الحديثة إلى التخصص أكثر من العموميات، لذا تصدر ملاحق منتظمة في موضوعات متخصصة، منها اليومي والأسبوعي والشهري.
* منح الصحفيين وإدارات الصحف مساحة واسعة من الحرية، ومن ثم الحد من الخطوط الحمراء التي تقف حائلًا دون تناول بعض الموضوعات، أو معالجتها بأسلوب معين، الأمر الذي يدفع القراء إلى الإحجام عن شراء الصحيفة، كونها تخفي بعض الأخبار والمعلومات عنهم، وبالتالي لا تعبر عن طموحاتهم وآلامهم وآمالهم، وهي أمور قد يجدونها متوفرة في وسائل إعلامية أخرى.
خلاصة القول: إن تعدد وتنوع منافسي الصحافة المطبوعة يتطلب منها وضع خطة عملية لمواجهتها، تراعي فيها التجارب الناجحة لبعض الصحف، التي استطاعت من خلالها تجاوز أزمتها، وهذا يستدعي الأخذ ببعض أو بكل المقترحات السابقة وفقًا لأوضاع كل صحيفة، عبر استخدام أدوات مبتكرة وخلاقة، قادرة على النهوض بها، وتضمن استمرار صدورها وتطورها مستقبلًا.