وإن كانت النقطة التي لا خلاف عليها أننا بتنا مستهلكين بلا ضوابط للتكنولوجيا وتطبيقاتها على المستوى الشخصي بحثاً عن الراحة وعدم بذل الجهود وعلى المستوى المؤسسي سعياً وراء المنتج السريع وبأقل التكاليف فإننا اليوم نقف أمام التساؤول الذي نتجنب الإجابة عليه والمتعلق بمدى أخلاقية توظيف الذكاء الاصطناعي في العمل الإعلامي.
وهذا يقودنا لعدد من الأسئلة البنائية ومنها: ما مدى إنضباطية الذكاء الاصطناعي في المنتجات الإعلامية وصلتها بالأهداف العملية للإعلام؟ وكيف نوظفه ونتعامل معه؟ وكيف نسأله؟ مع علمنا المسبق أنه يختزن نماذج ومعالجات ضخمة، ومصادر مفتوحة وتطبيقات متوفرة.
تطبيقات الذكاء الاصطناعي تأخذ عموماً صفات البشر وتتصف بها والشبكات العصبونية الاصطناعية بمدخلاتها الكبيرة من الشبكات والعاملة عبر خوارزميات تعمل بمنهج آلي متخطية قيود ومناهج التعلم الآلي التقليدي، حيث أن من تطبيقاتها التعرف على الصور والأصوات وترجمة اللغات. وعليه فقد بات كل ذلك يؤثر في العمل الإعلامي والبحثي. لذا على الإعلاميين والباحثين أن يروا فيه (Chat GPT) نقطة بداية لا تعطي حلولاً متكاملة، رغم إفادته في توفير الوقت والجهد والمراجعات والإطلاعات، لكنه لا يؤدي العمل عن الإعلامي والباحث فهما يجب أن يتمسكا باحترامهما للفكر والذهن الذي يميزهما عن الآلة.
إن التمسك بمقولة أن الذكاء الاصطناعي صنيعة البشر هي الموجه الأصيل للعمل الإنساني ويمكن دوماً للعقل البشري التفوق عليه لأنه لا يمكن أن يتملك المشاعر الإنسانية والأحاسيس وكل منتجاته ستبقى حيادية، وفي أحسن الأحوال موجهة لأنه على الأقل وحتى وقتنا هذا يعمل كاستجابات ومحولات توليدية مدربة مسبقاً.
كما أن الذكاء الاصطناعي لا يستطيع حتى اللحظة فهم أو إجابة التساؤولات الغامضة والمبهمة رغم دعمه لكل اللغات تقريباً بحسب الطلب منه، وبياناته مهيكلة وفق علوم البيانات علماً أنه لم يصل لشكله النهائي إذ أن آخر تحديث أجري عليه كان في أيلول 2021 من قبل الشركة الأم Open all.
والاعتماد في البحث وفي العمل الإعلامي على الذكاء الاصطناعي يفقد الصحفي والباحث المشاعر ويحد من ظهور الشخصية التي هي دلالة أصالة وموثوقية وصدقية المخرج الإعلامي والبحثي، عدا عن أن توظيفه في هذا المجال بشكل كبير سيعني إنكشاف زيف ومدى جهد القائم بالعمل ويظهره كشخصية منتحلة.
ما سبق لا يعني تحريم وتجريم توظيف واستخدام الذكاء الاصطناعي فهو يحمل العديد من الفوائد ومنها التلخيص وإعادة الصياغة وإقتراح الأفكار وتنظيم الجداول الزمنية وإقتراح المراجع والرد على البريد الإلكتروني وكتابة خطابات التوصية والتواصل. وهو مرشد مهني إذا ما عرفنا ماذا نريد منه وحاورناه بكفاءة علمية في مواضيع محددة.
واليوم بات الإعلاميون يهتمون بتقنيات الذكاء الاصطناعى بمعدل مرتفع، كونه أصبح حاضراً نعيشه رغم الجدل حوله. فقدرة تقنيات الذكاء الاصطناعى على محاكاة السلوك البشرى فى القيام بالعديد من المهام الإعلامية نظراً لأهمية تلك التقنيات وضرورة العمل على إمتلاكها واستثمارها والاستفادة مما تحققه من إيجابيات مهمة، ولكن يجب أن تكون تحت إشراف ومتابعة دقيقة من العنصر البشرى .
وبدأ الذكاء الاصطناعي في ولوج عالم الإعلام عبر بوابة المجال التسويقي والميداني (صحافة البيانات وعمليات التحرير الآلي) والإداري إلى جانب دخوله عالم التقديم من خلال الإستعاضة عن البشر في تقديم الأخبار والبرامج وإستبدالهم بشخصيات آلية أو كرتونية ثلاثية الأبعاد ذات معالم بشرية، فوكالة الأنباء الصينية "شينخوا" قدمت ومنذ وقت أول مذيع افتراضي بتسجيل صوتي ضمن حوار مع شخصية إنسانية من خلال تكنولوجيا محاكاة قدرات الإنسان الذهنية. وهذا مؤشر في حال شيوعه على التوجه لدى المؤسسات الإعلامية لإعادة هيكلتها بما يسمح للذكاء الاصطناعي ليكون هو الطاغي في العملية الإعلامية برمتها. وهذا سيحدث تغيرات عميقة وجذرية في الشكل الذي تعلمناه وتعلمه كليات الصحافة والإعلام وفي المؤسسات الإعلامية العاملة.
ما تقدم يحيلنا للعديد من الأسئلة ومنها: متى ستتحرك المؤسسات الأكاديمية للسيطرة على الطوفان القادم الذي سيضعها في موقف يهدد وجودها؟ وماذا عن دور نقابة الصحفيين ووزارة الإعلام في التحرك السريع والفاعل بصورة وقائية لما يمكن أن يترتب على احتلال الذكاء الاصطناعي الوظائف الإعلامية؟ وكيف يمكن للمنظرين لأخلاقيات المهنة التصرف إزاء هذا التسونامي الجارف؟ وهذه الأسئلة الاستباقية من المفترض أن تجعلنا نفكر في واقع صحافة الذكاء الاصطناعي التي بدأت توطد أركانها في عالمنا وفي المنافسة التي ستكون منفلتة في الأداء الإعلامي وخاصة في دول العالم الثالث مع الإشارة إلى أن دولاً عربية حتى اللحظة لا تسمح بالوصول لنطاقات الذكاء الاصطناعي وهي كثيرة ولا تقف عند حدود Chat GPT. فهناك مثلاً: Bing Chat, و You Chat. . وNeeva All. وElicit.
ونهايةً لا بد من التأكيد على أن إعلام الذكاء الاصطناعي سيفرض نفسه وبقوة في عالم الصحافة ولا سيما التفاعلية والرقمية وهو أمر ربما نجد وجهات نظر متباينة حوله ولكن يجب تقنين وتطوير نظم إدارته حتى لا نعود لعصر الصحافة الصفراء بشكلها التقليدي. ولا نستطيع التصرف في ضبط الواقع المنفلت وهذا بحد ذاته يفرض على أكاديميات الصحافة والإعلام أيضاً تطوير مناهجها وكوادرها التعليمية لمجاراة عصرنة إعلام الذكاء الاصطناعي القادم وبقوة هائلة، وكذلك الحال بالنسبة لقوانين المطبوعات والنشر والإعلان والإعلام، وفي الحالة الفلسطينية يستدعي وبشكل أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى الإسراع في تشكيل المجلس الأعلى للإعلام ليكون المرجع والناظم لعصر إعلام الذكاء الاصطناعي.