اطلس:الساعة السادسة صباحا بتوقيت القدس الموافق 14 مايو من العام 2022، أول أيام شيرين أبو عاقلة متلحفة بثرى القدس، ترقد بسلام بين عصافيرها، تتحدى بشاهد قبرها ظلم المحتل الذي لاحقها في حياتها والممات. ولعل العالم بأسره وقف عاجزا عن وصف قبح ممارسات الاحتلال
وجثمان الضحية يترنح في كفنه بين ركلات الجنود وهراواتهم، وقلوب المشيعين تخفق و حناجرهم تدوي "لن يسقط التابوت". والمكان هو المستشفى الفرنسي في الشيخ جراح حيث قضت أخر لياليها قبل تشييعه لمثواه الأخير، والحضور ممثلين وسفراء عن الاتحاد الأوروبي على أرض تعد تحت الرعاية الفرنسية. لكن "إسرائيل" اعتادت أن تجتاز كل الخطوط الحمراء ـ كيف لا وهي طفل الغرب المدلل. الغرب الذي يطالب بكل حقوق الإنسان شرقا وغربا، ويخوض حروبا يدمر بها دولا ويشتت بها شعوبا باسم الحرية والديمقراطية، يصبح أصم، أبكى وأعمى عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين.
لكننا قد لا نبالغ إن كنا نتفاءل بتغير المشهد هذه المرة. فشيرين التي وقفت بكل موضوعية وحيادية وصدق تعمل على نقل الحقيقة بكل جوانبها مضت شهيدة إريد بقتلها إسكات الرواية الفلسطينية. ولعل العالم تساءل لماذا أبكتنا شيرين، ولماذا حصلت جريمة اغتياله على كل هذا الصدى بالرغم من إنها ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في سجل المحتل الحافل بالجرائم المسكوت عنها. ليس هذا بالغريب، شيرين تعمل منذ ما يجاوز العقدين من الزمن في قناة الجزيرة حيث كانت من أوائل الملتحقين بها في هذه المنطقة التي تشهد أحداثا متواترة تستدعي وجودها وزملائها بشكل متكرر على شاشات الجزيرة التي هي جزء لا يتجزأ من بيوت العالم العربي منذ انطلاقها في تسعينيات القرن المنصرم. فالجزيرة شئنا أم أبينا تفرض نفسها على مساحات الأخبار حول العالم بما تملك من أدوات تجعلها صاحبة السبق في تغطية الحدث ليس فقط في ما يتصل بالصراع العربي الإسرائيلي وأنما في كافة القضايا الهامة حول العالم. فأصبحت صورة شيرين وصوتها نذيرا بأن شيئا ما يحدث في فلسطين.
ليس هذا فحسب، شيرين هي امرأة فلسطينية، وهي بذلك رمز لنضال المرأة الفلسطينية التي ما أصابها يوم كلل أو ملل، فهي مربية الأجيال على أن الحق لا يسقط بالتقادم، وبأن للفلسطينيين الحق في العيش بكرامة في دولة ذات سيادة تضمن لهم ذلك. فالمرأة الفلسطينية التي تبوأت دور المدرسة والطبيبة والوزيرة والممرضة ورائدة الأعمال والصحافية إلى أخر القائمة من ميادين العمل، شاهدها العالم تغتال أمام مرآه في وضح النهار خلال عملها. شيرين مقدسية، اضاءت بجنازتها بما لا شك فيه على معاناة أهل القدس وما يرون من قمع على يد سلطات الاحتلال حينما يمنعون من الصلاة، أو العمل أو الفرح ويمنعون حتى من دفن موتاهم وتغتال حتى مساحات الحزن وهيبة الموت.
كل هذا حدث ولم تستطع "إسرائيل" حجب الرواية الفلسطينية، فمن محاولة إلصاق التهمة بالفلسطينيين إلى حوار تبدل وتغير مرات كثيرة ولا زال، لم تعد "إسرائيل" قادرة على بيع روايتها للعالم بتصوير الفلسطيني كوحش يريد نهش حلم الدولة اليهودية القومية وإبادة "إسرائيل" كما يروج الصهاينة في الغرب لكسب تعاطف في قضم الأرض والتضييق على الفلسطينيين واغتيال حلم الدولة الفلسطينية. علنا هذه المرة كسابقاتها منذ تطور وسائل التواصل الاجتماعي رأينا مؤثرين لديهم ملايين المتابعين، بما فيهم ممثلين وسياسيين ونواب في برلمانات عربية وغربية يعبرون بشكل واضح عن آرائهم بما لم يكن بالأمس ممكنا، لكنه اليوم متاح. شيرين مسيحية الديانة فلسطينية الانتماء، صحفية مقدسية، امرأة تعمل بكل موضوعية، تقنص برصاص المحتل ويرديها قتيلة محاولا إخفات صوت الحق وكتمه، لكن ثمانية عقود أثبتت ولازالت بأن الفلسطيني صاحب حق عصي على الكسر والانهزام.
أختم بالقول بأنه من المهم هنا البناء على هذا الزخم والتعاطف الدولي ليس فقط لتدعيم بناء رأي عالمي يقف موقف الحق من عدالة القضية الفلسطينية ويحاسب مرتكبي الجريمة، بل ليتسع البناء على هذا لإيجاد حل شامل وعادل لقضية بلغ عمر الاحتلال بها ثمانون عاما والقهر دهرا والدم لا زال يراق. لابد للعالم من أن يعلم بأن الصهاينة يحرمون الفلسطينيين من كل حقوقهم المنصوص عليها في المواثيق الدولية والتي وقعت عليها "إٍسرائيل" اتفاقية سلام مع الفلسطينيين أطلقت عليها رصاصة في مهدها واردتها قتيلة تماما كما فعلت مع شيرين.
فمن أحرار العالم، صباح الخير يا شيرين!!