اطلس:الحياة اليومية تحت وطأة العدوان الصهيوني قاسية، حيث الخوف من قذيفةٍ عشوائية أو قذيفةٍ تقصد أحد بيوت الحي القريبة، أو تستهدف شخصًا مارًّا بجوار شخصٍ آخر أو بجوار منزل، أو في السوق، أو بباب مدرسةٍ تأوي مئات النازحات والنازحين، فيُقتل العشرات في غمضة عين
رغم أنّهم بالليلة السابقة كانوا يحلمون بحياةٍ هادئةٍ بعض الشيء، وربما يتوقّعون حدوث اتّفاقٍ لإنهاء هذا العدوان.
تقول زميلتنا التي تسكن في منطقةٍ هادئةٍ نسبيًا: "فجأة شعرت بدوارٍ رهيب والبيت يتمايل بنا يمينًا وشمالًا، ففكّرت أنّ الضربة جاي على راسي". أمّا صديقتي النازحة نحو الجنوب قسرًا فقالت لي: "شو هذه الحالة! مش عارفين شو عم بيصير حوالينا، فجأة بتولّع الدنيا والقصف بيشتغل وين مكان، صار الواحد لمّا بيضطر يغادر مكانه عشان نروح أي مكان تاني سواء نحضر اجتماع، أو نروح نشتري غرض من السوق، أو حتى نزور معارفنا للضرورة، بنتشاهد على أرواحنا ومش عارفين إذا راح نرجع سالمين أو مُصابين أو جُثث، والله الوضع بيخوّف". وتسترسل قائلة: "فجأة بيقولوا فش ضرب والمنطقة آمنة، ما بنلحق نفرح شوي إلا وبنسمع صوت القذيفة نازل، لإيمتى هذه الحالة بدّها تستمر؟ والله راح نفقع".
كذلك المجاعة التي تلوّح لنا بأنيابها في مدينة غزة وشمالها لتفتك بالصغار والكبار، فنعيش يوميًا قصّة "إبريق الزيت" (حكاية شعبية الشهيرة في بلاد الشام كمجاز عن الدوران في دائرة مُفرغة)، حيث يدور الحديث والتساؤلات حول دخول البضائع أم لا: طيب دخلت الخضار؟ وصلت المساعدات؟
والواقع أنه لا يدخل لنا سوى بعض صناديق المساعدات التي تحتوي على المعلّبات والبقول الجافة والزيت والحلاوة، ومنها ما يتضمّن السكر والأرز ومنها يخلو منهما، وقد بدأت هذه الصناديق في الدخول بعد انقطاع ما يقرب من الشهرين، منذ الاجتياح الأخير لجنوب غزّة وجباليا. أما الخضار والفواكه وأيّ نوعٍ من اللحوم والحليب، بما فيها حليب الأطفال الرّضع فلا يدخل إلى مدينة غزّة مُطلقًا، كما ما زالت المحروقات محصورةً على بعض المؤسسات الصحية ومؤسسات الأمم المتحدة التي تُقرّر كيفية صرفها وهي الأخرى محدودةٌ أيضًا.
يوميًا، يقول لي السائق في الصباح: "خلص يا أستاذة، اتّفقوا غدًا ستدخل الخضار والشاحنات في معبر كوسوفيم"، ولكن يأتي صباح اليوم التالي دون جديد غير أنّه يكرّر نفس العبارة، حتّى أنّني طلبت منه أخيرًا ألّا يذكر هذا الأمر مُجدّدًا إلّا إذا كان الخبر أكيدًا، فقال لي: "طيب أنا شو ذنبي؟ هيك باسمعهم بيقولوا وإحنا بنصدّق، ما هو حلم الجوعان عيش". وهكذا، يبقى المستقبل مجهولًا حتى اليوم التالي، والناس يتساءلون متى سينتهي كُلّ هذا، ومتى سينتهي كُلّ ذلك.
في حكايات أُمي -لروحها الرحمة- كانت للحدّوتة بدايةٌ ونهاية. حتى عندما تكون الغولة والغول بطلا الحدوتة، كانت النهاية تكون إمّا بتطويعهما نحو الخير، أو انتهاء حياتهما بالغرق في الماء أو الوقوع من أعلى الجبل. ولكن في حكايتنا الرّاهنة "غزة والغول الشرس"، طالت القصّة وأحداثها إلى الحدّ الذي لم نعد نعرف فيه هل ستتوقّف شراسة الغول؟ هل ستنتهي حياته؟ أم هو سيُنهي حياة المزيد ممّن بقوا على قيد الحياة في هذه الأرض؟
إنّ المشكلة تكمن في عدم جديّة التعاطي مع هذا الواقع من قِبل المجتمع الدولي الذي بالرغم من وضوح المسألة سياسيًا وعسكريًا خلال شهور هذا العدوان الطويلة، وأيضًا وضوحها لدى المؤسّسات الأممية، إلا أنّ الجميع ما زالوا يقفون في صفوف المُتفرّجين، ولا يملكون العزيمة لاتّخاذ موقفٍ حقيقي لصالح الشعب الفلسطيني، بل يكتفون فقط بإرسال المعونات القليلة لتبرئة ذمتهم من دم ابن يعقوب.
أما الجماهير الغفيرة حول العالم، فلا تملك الحول ولا القوة سوى الوقوف في الميادين والساحات، وأن يعلو صُراخهم بأن أنقذوا غزة، ولا من مجيب.
أتألّم لألم الصديقات والأحبة الذين يرغبون في تقديم المساعدة ولكنّهن وهُم لا يستطيعون فعل أيّ شيء.
ولكننا نقول ونثق بأنّ هذا الشعب ما يزال لديه بعض القوة وبعض الصبر، حيث لا خيار آخر أمامه سوى التمسّك بالأمل حتى انتهاء هذا العدوان الفاشي.
زينب الغنيمي، من مدينة غزة تحت القصف والحصار