ما بدأ احتجاجاً سلميّاً في بنغلاديش، قادته “الحركة الطلابية ضد التمييز”، احتجاجاً على قرار المحكمة العليا في يونيو/حزيران 2024، إعادة فرض حصص وظيفية بنسبة 30% لأسر المحاربين القدامى في حرب الاستقلال عام 1971، تطور ليصبح “ثورة”.
تحت ضغط هذه التطورات، اضطرت رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد إلى الاستقالة في الخامس من آب/ أغسطس 2024، ومن ثم فرّت إلى الهند. بعد استقالتها، تم الإعلان عن تشكيل حكومة مؤقتة بقيادة محمد يونس. وهذه الثورة قد تفرض على السياسة الخارجية البنغلاديشية إعادة ترتيب استراتيجي لعلاقاتها الإقليمية. إحدى القضايا الجيوسياسية الرئيسية المتعلقة بالثورة هي العلاقات بين بنغلاديش والهند في جنوب آسيا.
جاءت استقالة حسينة، التي تُعتبر صديقة لنيودلهي، في وقت توجد فيه حكومات في دول جنوب آسيا تطالب الهند بـ “عدم التدخل في شؤونها الداخلية”، مثل سريلانكا وجزر المالديف. جاءت الثورة في بنغلاديش لتنضم إلى هذا المطلب، وهذا قد لا يبشر بالخير بالنسبة لسياسة “الجوار أولاً” التي تنتهجها الهند مع دول جنوب آسيا.
رغم أن الثورة في بنغلاديش لا تزال غير مكتملة؛ فإن الإصلاحات السياسية والإدارية في مؤسسات الدولة تشكل السمة الأبرز لنهاية الثورة، مع إجراء الانتخابات كخطوة نحو تحقيق ذلك. تشير النتائج الأولية للثورة إلى احتمال تراجع في طبيعة العلاقات بين نيودلهي ودكا، دون أن يصل الأمر إلى عزلة جيوسياسية إقليمية بين الهند وبنغلاديش. فالواقع الجغرافي المشترك بين البلدين يفرض استمرارية التفاهم بشأن القضايا الحدودية.
تقع بنغلاديش في جنوب آسيا، ويشار إلى الهند وباكستان وسريلانكا وجزر المالديف ونيبال ومملكة بوتان، إلى جانب بنغلاديش، مجتمعة باسم شبه القارة الهندية في هذه المنطقة. سُميت شبه القارة الهندية بهذا الاسم لأن أراضي هذه الدول تفصلها الجبال والأنهار والبحار عن بقية قارة آسيا. كما أن هذه المنطقة تتميز بهوية جغرافية وثقافية وتاريخية وسياسية تختلف عن بقية قارة آسيا. في حين كانت الهند تمتلك النفوذ الأكبر في تشكيل هذه الهوية الإقليمية.
ومن الجدير بالذكر أن معظم دول جنوب آسيا خضعت للسيطرة الأجنبية المتعاقبة، وكان آخرها السيطرة البريطانية. قبل انسحابها، أعلنت بريطانيا قرار تقسيم شبه القارة الهندية عام 1947 وفق “معيار ديني”، مما أدى إلى اندلاع النزاعات الحدودية في جنوب آسيا التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. ومع ذلك، تطورت دول جنوب آسيا تدريجياً إلى دول قومية حديثة؛ حيث حصلت الهند وباكستان على استقلالهما في عام 1947، وسريلانكا في عام 1948، وجزر المالديف في عام 1965. من ناحية أخرى، لم تكن نيبال وبوتان مستعمرتين بالكامل من قبل أي قوة أجنبية. بينما أصبحت نيبال جمهورية بعد إلغاء النظام الملكي في عام 2008، تطورت بوتان إلى ملكية دستورية حديثة في نفس العام. أما بنغلاديش، لا يخفي التاريخ الدور الكبير الذي لعبته الهند في دعم حركة انفصال شرق باكستان -التي أصبحت بنغلاديش الآن- عن غرب باكستان في عام 1971.
في التسعينيات، صاغت الهند “مبدأ جوجرال” كجزء من سياستها الخارجية تجاه جيرانها، مرتكزاً على خمسة مبادئ توجيهية لإدارة العلاقات مع الدول المجاورة. من بين هذه المبادئ: “احترام سيادة كل دولة في جنوب آسيا وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”. تكمل الهند تعبيرها عن “حسن سياسة الجوار” بإعلانها سياسة “الجوار أولاً” عام 2014، مع تولي ناريندرا مودي رئاسة الحكومة بقيادة حزب “بهاراتيا جاناتا”.
وفي الوقت نفسه، كشفت هذه الحكومة عن نوايا الهند التوسعية في جنوب آسيا، والتي تجلت في الخطابات السياسية لرئيس الوزراء مودي. وفي مناسبات عدة، منها خطابه خلال حملته الانتخابية لعام 2019، إذ استخدم مودي مصطلح “أخاند بهارات” (Akhanda Bharat)، وتعني “الهند المتحدة”، وتشير إلى “تصور هندي تاريخي يشمل الهند الحالية، وباكستان، وبنغلاديش، وبلدان أخرى كانت جزءاً من الهند البريطانية قبل تقسيمها في عام 1947″. تعزز سياسات حكومة مودي هذه الرؤية التوسعية من خلال خطوات ملموسة؛ منها إلغاء المادة 370 في آب/ أغسطس 2019، التي كانت تمنح إقليم كشمير حكماً ذاتياً، وإعلان ضمه إلى السيادة الهندية. وفي نفس العام، نشرت الهند خريطة محدثة تضمنت منطقة كالاباني النيبالية، مما أدى إلى توترات بين الهند ونيبال”.
ظل هناك تخوف لدى حكومات دول جنوب آسيا من الدوافع الجيوسياسية التوسعية والهيمنة الإقليمية للهند في المنطقة. وفي هذا السياق، أصبح مطلب “عدم التدخل في الشؤون الداخلية” شعاراً إقليمياً ترفعه حكومات تلك الدول، وهو ما تجلى بشكل خاص خلال ثورة بنغلاديش. في رسالة مشتركة وجهها مجموعة من الكتاب والصحفيين والناشطين الاجتماعيين والسياسيين من بنغلاديش ونيبال وسريلانكا إلى حكومة الاتحاد الهندي في 9 آب/ أغسطس 2024، طالبوا فيها الهند “بالتوقف عن التدخل في سياسات كل منها”. وفي ختام الرسالة، أشير إلى أن “جزر المالديف وبوتان تعانيان أيضاً من جهود نيودلهي لتكون اللاعب الحاسم في شؤونهما الداخلية والخارجية”. في حين أن لكل دولة من هذه الدول قصتها الخاصة التي يمكن التحدث عنها بشكل مفصل، فإن فهم طبيعة العلاقات الهندية مع دول جنوب آسيا يتطلب النظر في كل واحدة منها.
في بنغلاديش، قدمت نيودلهي دعماً متواصلاً لحكومة الشيخة حسينة، حتى اختارت حسينة الهند كملاذ آمن لها بعد مغادرتها البلاد. وجدّت لهند نفسها في موقف سياسي ودبلوماسي صعب، حيث تواجه تحدياً في تحقيق توازن بين حماية حسينة وبين الاستجابة لمطالب الشعب البنغلاديشي بتسليمها. هذا الوضع قد يؤدي إلى بروز احتمالات سياسية جديدة، قد تؤثر على طبيعة العلاقات بين بنغلاديش والهند مع تشكيل الحكومة الجديدة.
أولاً: تراجع في النخبة الحاكمة في بنغلاديش التي من المحتمل أن تكون داعمة للهند.
ينظر معظم البنغلاديشيين إلى العلاقة مع الهند على أنها تحالف مع حزب معين، وهو رابطة عوامي، بدلاً من أن تكون علاقة شاملة مع الشعب البنغلاديشي بشكل عام. فقد اعتبرت الهند حزب رابطة عوامي حليفاً رئيسياً في بنغلاديش لحماية أمنها الجيوسياسي على طول حدودهما المشتركة من الشرق. في الماضي، دعمت الهند “حركة انفصال شرق باكستان” في بنغلاديش، قاد هذه الحركة الشيخ مجيب الرحمن، الذي أصبح لاحقاً ثاني رئيس وزراء لجمهورية بنغلاديش الشعبية عام 1972 حتى اغتياله عام 1975، وبزعامة حزب رابطة عوامي، وسبقتها حكومة مؤقتة برئاسة تاج الدين أحمد. مجيب الرحمن هو والد حسينة، التي شغلت منصب رئيسة وزراء بنغلاديش لخمس فترات كزعيمة لحزب رابطة عوامي: فترة واحدة من 1996 إلى 2001، وأربع فترات متتالية من 2009 إلى 2024. انتهت فترة ولايتها الأخيرة باستقالتها في آب/ أغسطس من العام الجاري، بعد مرور أشهر على تشكيلها منذ يناير/ كانون الثاني من نفس العام.
بعد استقالة حسينة، تتابعت الاستقالات في المؤسسات الأمنية والعسكرية والمؤسسة القضائية. أطلقت محكمة جرائم الحرب في بنغلاديش تحقيقات شملت الشيخ حسينة وشخصيات بارزة في إدارتها. كما أعادت المحكمة العليا في يوليو/تموز الماضي خفض نسبة الحصص التوظيفية إلى 5% من 30% لأسر المحاربين القدامى.
بالنسبة لنيودلهي، يعني هذا فقدان حكومة بقيادة رابطة عوامي التي كانت موالية لها، وقد ضمن نظام الحصص الوظيفية في بنغلاديش وجود نخبة سياسية تعاونت مع الهند منذ بداية استقلال بنغلاديش.
ثانياً: تراجع محتمل في طبيعة العلاقات بين الهند وبنغلاديش.
يأتي احتمال تراجع طبيعة العلاقات بين نيودلهي ودكا مع احتمال فوز أحد أحزاب المعارضة في الحكومة الجديدة، بعد أن أطاحت الثورة بحكومة الشيخة حسينة التي كانت بقيادة رابطة عوامي، وذلك في وقت حرج للبلاد. فقد أثارت الانتخابات الأخيرة تحت قيادة حسينة جدلاً كبيراً بسبب عدم شفافيتها، مما أدى إلى مقاطعة أحزاب المعارضة لها. يبدو أن هناك احتمالاً كبيراً لفوز أحد أحزاب المعارضة، مثل “الحزب الوطني البنغلاديشي”، بتشكيل الحكومة الجديدة. وغالباً ما وجهت أحزاب المعارضة انتقادات لحكومة حسينة بسبب ولائها المفرط للقوى الإقليمية، وخاصة الهند. وهذا يشير إلى أن الحكومة الجديدة قد لا تكون على نفس القدر من الود مع الهند كما كانت الحكومة السابقة.
ثالثاً: تأرجح لصالح الصين أمام الهند في جنوب آسيا ولكن؟
هناك تأرجح جيوسياسي عام لصالح الصين على حساب الهند في جنوب آسيا، حيث نجحت الصين في بناء علاقات وثيقة مع دول المنطقة. باستثناء بوتان، انضمت دول جنوب آسيا إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية، التي تهدف إلى تعزيز الطرق التجارية البرية والبحرية بين الصين والعالم. كانت باكستان من أوائل الدول التي انضمت إلى المبادرة في عام 2013، تلتها سريلانكا وجزر المالديف في عام 2014، ثم بنغلاديش في عام 2016، ونيبال في عام 2017.
في المقابل، فإن هذا التأرجح “لصالح الصين” تحكمه مجموعة من العوامل. فقد انضمت هذه الدول إلى المبادرة الصينية لأن مصالحها تقتضي ذلك، لكن هذا الانضمام جاء أيضاً في إطار خلق توازن أمام الهند. علاوة على ذلك، هناك توجه داخل دول جنوب آسيا بأسرها يدعو إلى عدم التبعية لأي قوة إقليمية، سواء كانت الصين، الهند، أو أي قوة أخرى.
بحكم العامل الجغرافي، قد تتمكن باكستان ونيبال، وحتى بوتان في المستقبل، من اختيار توجهها بين الهند والصين. لكن يختلف الوضع بالنسبة لسريلانكا وجزر المالديف، ويصبح أكثر تعقيداً مع بنغلاديش؛ يمنح غياب الحدود المشتركة مع الصين، الهند ميزة على بكين.
رابعاً: عزل جيوسياسي مستبعد أمام الهند من قبل بنغلاديش.
يفرض العامل الجغرافي على الهند وبنغلاديش بناء تفاهم مشترك بينهما يكون “دائماُ ومستمراً”. تشترك بنغلاديش في 94% من حدودها مع الهند، وهي دولة محاطة بالهند من جميع الجهات، باستثناء أقصى الجزء الجنوبي الشرقي الذي تحده بورما (ميانمار)، وأقصى الجزء الجنوبي الشرقي من القارة الذي يحده ساحل البنغال من الجنوب. هذا الوضع يجعل من غير الممكن عزل الهند جيوسياسيًا على حدودها الشرقية. على العكس، تستطيع نيودلهي فرض عزلة على دكا. في السابق، في عامي 2017 و2019، قيدت الهند الصادرات إلى بنغلاديش، ويمكنها إعادة فرض هذه القيود إذا لزم الأمر.
لا تزال هناك قضايا مثيرة للجدل بين دكا ونيودلهي، أبرزها إدارة مياه الأنهار العابرة للحدود والقضايا الحدودية. وعلى الرغم من أن الهند وبنغلاديش أبرمتا العديد من الاتفاقيات الثنائية لحل هذه النزاعات، بما في ذلك اتفاقية تسوية الحدود الموقعة في عام 2015، إلا أن هذه القضايا تتطلب تعاوناً وتفاهماً مستمرين. تظل الهند اللاعب الأكثر تأثيراً في هذه الملفات، بفضل نفوذها الكبير، مما يبقيها حاضرة بقوة في الحسابات الاستراتيجية الإقليمية لسياسة بنغلاديش الخارجية.
ختاماً، أحدثت مطالب الثورة الشعبية تغييرات جوهرية إدارية وقانونية وسياسية في بنغلاديش، حيث انتقلت المطالب من إلغاء نظام الحصص الحكومي إلى استقالة رئيسة الوزراء. ومع ذلك، يبقى نجاح الثورة غير مؤكد حتى إجراء الانتخابات. بعد الانتخابات، سيكون من المهم استثمار المطالب الشعبية كبرنامج سياسي لتحقيق تقدم مستدام، وإحداث تغيير وتجديد في المؤسسات السياسية الرئيسية في بنغلاديش. هذا التغيير قد ينعكس على طبيعة العلاقات الإقليمية مع الحكومة الجديدة في بنغلاديش.
تحتاج بنغلاديش إلى سياسة خارجية مصممة لحماية مصالحها الأمنية والاستراتيجية، وضمان التوازن بين المنافسين الإقليميين، لا سيما الصين والهند. ستصبح دكا شريكاً استراتيجياً منافساً أمام هذه الدول، وسيظهر ذلك بوضوح بعد تشكيل الحكومة الجديدة، خاصة إذا فاز أحد الأحزاب المعارضة.
يتعين على الهند التوقف عن أداء الدور القيادي في منطقة شبه القارة الهندية والاستجابة للمطالب الإقليمية بـ”عدم التدخل في الشؤون الداخلية” للدول المجاورة.
وفيما يخص بنغلاديش، كما أشار سي. راجا موهان، فإن “الهند ستحتاج إلى صبر استراتيجي كبير، وفهم منطق الجغرافيا، وإدراك أهمية التجارة، والتزام سياسي قوي لتجاوز آثار التقسيم وبناء علاقات قوية مع بنغلاديش المتغيرة”.
ظهرت بنغلاديش “كدولة” في عام 1971 بمساعدة الهند. والسؤال الآن هو: هل تحتاج بنغلاديش إلى مساعدة الهند مرة أخرى لإحداث إصلاحات مؤسسية داخلية ولتعزيز حضورها الإقليمي؟ أم يمكن لبنغلاديش أن تتحمل تكاليف قطع علاقاتها مع الهند؟