اللواء المتقاعد أحمد عيسى يكتب : لماذا تخشى إسرائيل وحدة الساحات وحرب الإستنزاف

بعد أن وضع رئيس وزراء اسرائيل الأول بن غوريون في بدايات خمسينات القرن الماضي الركائز الثلاث التي يقوم عليها الأمن القومي لدولة إسرائيل (الردع والإنذار المبكر والحسم السريع)، وبعد أن صمم العقيد في حينه في بدايات ثمانينات القرن الماضي إيجال آلون معادلة الأمن القومي والتي تتكون من ثلاث متغيرات (القدرة القومية والغايات والقومية وتتوسطهما الوسيلة)، طورت منظومة الأمن القومي في إسرائيل شروط بقاء الدولة.

وتظهر الدراسات المتخصصة بالأمن القومي الإسرائيلي أن الأول من هذه الشروط هو منع العرب من تطوير قوة عسكرية موحدة، والثاني هو عدم قيام إسرائيل بحرب فيما هناك أنتفاضة فلسطينية، والشرط الثالث هو وجوب احتفاظ إسرائيل الدائم بوقت اندلاع الحرب ومكانها، علاوة على تحكمها بوتيرة نيران الحرب.

وفيما يخص شروط البقاء يسجل لإسرائيل نجاحها في المحافظة على هذه الشروط موظفة في ذلك كل وسائل الضغط الديبلوماسي والعسكري والإقتصادي على مدى خمسة عقود، أي منذ الإعلان عن قيام الدولة العام 1948 حتى العام 2000، الذي شهد إنسحاب الجيش الإسرائيلي من جانب واحد من جنوب لبنان بعد إحتلال استمر لقرابة العقدين من الزمن، حيث بدأت قدرة الدولة على إستمرار المحافظة على هذه الشروط تضعف وتتصدع وفق الأدبيات الإسرائيلية التي نشرت في هذا الشأن.

وكان كثير من المتخصصين في الأمن القومي الإسرائيلي قد رأوا  في هذا الإنسحاب أحد ابرز المؤشرات على بداية تصدع الركائز التي يقوم عليها مفهوم الأمن القومي للدولة، وجائت هزيمة الجيش الإسرائيلي في حرب لبنان الثانية العام 2006، ثم الحروب المتتالية على قطاع غزة (2008 2014) ، لا لتعمق من تصدعات ركائز مفهوم الأمن القومي فحسب، بل لتثبت أن ما نجح مقابل الدول والجيوش النظامية لا يصلح مع منظمات مسلحة من خارج نظام الدولة.

وجاء طوفان الأقصى في اكتوبر العام 2023، ثم الإنخراط المباشر والسريع لحزب الله وأنصار الله اليمني وقوى المقاومة العراقية وغيرهم من قوى المقاومة العربية والإسلامية تحت عنوان وحدة الساحات وبدافع مساندة قوى المقاومة الفلسطينية في الظاهر، فيما هي في الجوهر تجسيد لإستراتيجية الإستنزاف لتزيد من تقويض شروط بقاء الدولة، علاوة على تعميقه لشروخ وتصدعات مفهوم الأمن القومي.

وفي ذات الشأن تظهر تطبيقات معادلة الأمن القومي للدولة في المرحلة الحالية التي تخوض فيها إسرائيل حرب وجودية كما هو خطابها ان القدرات القومية للدولة والتي تتكون بشكل أساسي من (جاهزية المجتمع  ومناعته وكفائة النخبة)، أن إسرائيل تحتاج الى معجزة في عصر أنتهاء المعجزات لكي تحقق غاياتها المعلنة للحرب بالقوة المعسكرية.

وتأسيساً على ما تقدم تكشف حالة إسرائيل الإستراتيجية أنها تخوض حرب وجودية، فيما ركائز أمنها القومي متصدعة، وأحد أهم متغيرات معادلة أمنها القومي متآكلة، علاوة على أن شرطين من شروط بقائها منهارة، حيث لم يتبقى في حوزة إسرائيل من هذه الشروط إلا الشرط الثالث المتعلق بقوة نيرانها الفتاكة والإبادية وتفوقها الإستخباري والتكنولوجي، فيما تسعى الدولة الى اصلاح كل ما فسد بضربة واحدة، الأمر الذي لم يتحقق خلال سنة تقريبا من عدوان الإبادة على الشعب الفلسطيني، إذ لا زالت هناك مقاومة جادة رغم الأثمان الباهظة والتضحيات العالية، ولم يتحقق كذلك على الساحة اللبناتية التي تعرضت لإبادة مماثلة خلال هجمات البيجرات واللاسلكي واغتيال القيادات كما تجلى في رود حزب الله الذي بدأ بعد منتصف ليلة السبت الموافق 21/9/2024، وقبل تشييع شهداء المجزرة الأخيرة من القيادات، الأمر الذي لا يخلو من دلالة.

ما تقدم يفسر من جهة لماذا الإصرار الإسرائيلي على تفكيك وحدة الساحات وإنهاء حالة الإستنزاف المفروضة عليها، ومن جهة أخرى يفسر لماذا تصر قوى محور المقاومة على عدم فصل الساحات وربط هدوئها بوقف عدوان الإبادة على غزة والفلسطينيين، ولماذا تصر على مواصلة حرب الإستنزاف لأطول مدى ممكن دون إسقاط إحتمال الحرب الشاملة، الأمر الذي يعمق من جراح إسرائيل ويورط مواطنيها في الغرق أكثر في وحل الوسم بالإجرام والإبادة والتطهير العرقي والفصل العنصري، إذ يدرك أصغر الإسرائيليين سناً أن كل أموال الدنيا وكل مقدرات القوة والتكنولوجيا لا يمكنها محو هذا الوسم، فكيف يمكن لشعب هذه سماته أن يكون عنصرا فاعلا ومنتجا ومحبوبا في المجتمع الإنساني؟ ربما يفسر هذا القلق جرأة نسبة ليست بسيطة من اليهود الشباب حول العالم خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية شعار (ليس بإسمي).

فالإستنزاف لا يقتصر هنا على القوة العسكرية والإستخبارية بل يشمل الرواية والسردية، لهذا ولأسباب أخرى تخشى إسرائيل وحدة الساحات والجبهات وحرب الإستزاف.

عن Atlas

شاهد أيضاً

إرث بايدن – الحروب في غزة ولبنان، أم إنهاء الحروب في غزة ولبنان؟

الرئيس جو بايدن وحده قادر على إعادة الرهائن إلى ديارهم وإنهاء الحرب في غزة. فهل …