عنوان هذا المقال سؤال عام جداً لأنه لا يحدد الذي يجري، ولا أين، ولا متى، ولا كيف، ومع هذا فهو يمتد إلى المستقبل ويحاول أن يستقرئ الذي يمكن أن يحدث، واحتمالات السيناريوهات المختلفة. ولكنه على الرغم من ضآلة المعلومات التي يقدمها بهدف الحصول على إجابة منطقية، إلا أن قارئاً واحداً لن يشك في أن السؤال الذي وسم به المقال يؤمى برأسه وسبابته وجسده كله إلى العمليات العسكرية (ولا أقول الحروب) الدائرة في المنطقة مع إسرائيل وضدها.
ولكي تكون الإجابة عن السؤال معقولة، لا بد من مناقشة بعض القضايا ووضعها ضمن الإطار الصحيح. أولاها، أنني قد لاحظت أن عدداً كبيراً من المعلقين والخبراء السياسيين يشير إلى خطابات بنيامين نتنياهو بأنه لا يزال يتمسك بالقوالب القديمة من أن إسرائيل دولة مستضعفة لصغر مساحتها (داود) تحارب على جهات متعددة (جوليات الجبار). هذا في رأيي غير صحيح. بل على العكس، فإن نتنياهو يتحدث عن إسرائيل بصفتها دولة قوية مستقلة في الرأي عن الولايات المتحدة وعن أنصارها الأوروبيين وتعمل كل ما ينفعها ضاربة عرض الحائط بكل ما يقال ضدها. أما نحن المعلقين العرب فنبدو أننا البكاؤون على ما تفعله إسرائيل من قتل وتشريد طاولا زعماء المقاومة، ولم يوفر الأهالي المدنيين حين دمر بيوتهم على رؤوسهم قاتلاً الأطفال والنساء والشيوخ.
ولم يشذ في هجر اللغة الضعيفة الشاكية إلا الأردن، وخطابات الملك عبدالله الثاني ومقابلات الملكة رانيا العبدالله وتصريحات وزير الخارجية الأردني التي جاءت قوية صريحة متحدية دون التخلي عن الدفاع عن النظم الإنسانية والمواثيق الدولية. وجاء خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الأمم المتحدة قوياً ومتحدياً.
أما النقطة الأساسية الثانية فهي ذهاب بعض المحللين الاقتصاديين إلى القول إن الثمن الاقتصادي الذي تكبدته إسرائيل بسبب الحروب كان باهظاً. وبحسب مصادر إسرائيلية، إن مجموع الخسائر حتى يوم (17) سبتمبر/ أيلول الماضي، أو يوم هجوم البيجر على أعضاء من حزب الله، قد وصل إلى ما يقارب (120) مليار دولار، أو ما يساوي بالأرقام الجارية 21.3% من ناتجها المحلي الإجمالي عام 2023. وصحيح أن معدل النمو قد انخفض من حوالي 5% عام 2022 إلى 2% عام 2023 ثم إلى 1.6% خلال العام الحالي 2024، إلا أن هذه الخسائر ستعوضها إسرائيل من المساعدات والتبرعات التي سوف تأتيها. ولذلك، فإن الاقتصاد الإسرائيلي ربما يشهد مثله مثل الاقتصادين الغزي واللبناني انتعاشاً بعد انتهاء الحرب، والوصول إلى تسوية.
أما النقطة الثالثة، وبالرغم من نتيجة هذه المعارك الضاربة، فإن حصيلتها على المديين المتوسط والطويل لا تخدم إسرائيل من عدد من النواحي. أهمها هو أن الشعوب هي التي تقاتل إسرائيل وليس الحكومات. والشعب العربي الذي تحمّل ضحايا كُثراً في غزة ولبنان والضفة الغربية وسورية والعراق لم يعد يخشى إسرائيل أو سطوتها. فقد أصبح بالإمكان الوصول إلى عمق دارها، وتهجير أبنائها ومشاهدة خطواتهم المرتعبة وهم يركضون إلى الملاجئ.
وثانيها، أن إسرائيل خسرت كثيراً من الذي عملت عليه لسنوات طوال وهو إثبات قدرتها وتفوقها. وبالمقابل، فإن المقاومة قد تعلمت دروساً مهمة جداً. وهي الحرب ضد إسرائيل إن انفجرت في المستقبل، تتطلب منهجية مدروسة طويلة الأجل، وأنها قادرة على التصدي لأدوات التفوق العسكري التكنولوجي لإسرائيل، وأن عندها القدرة على إحداث أضرار كبيرة في إسرائيل مقابل ما تُحدِثُهُ إسرائيل في المقاومة. ولن تكون في تقديري هذه الحرب الأخيرة. فإسرائيل سوف تتصرف على أنها المنتصرة. وسيقدر لها الغرب الاستعماري ما فعلته بالمقاومة، وسوف تساعدها على تعزيز مكانتها، وفي لجم خصومها خاصة تركيا وإيران.
وهنا يثور السؤال الصعب بعدما استمعت أثناء كتابة هذا المقال باستشهاد قائد حزب الله حسن نصر الله وعدد من زملائه، والسؤال الصعب هو أن الحكومات العربية سوف تواجه محنة داخلية. فالكثيرون من مواطني الدول العربية الواقفين بعواطفهم الجياشة مع المقاومة ربما يصابون بخيبة أمل، وتظهر بعض بوادر التحرك لاتهام الحكومات بالتقصير. وإن حصل هذا الأمر، فإن أي تحرك شعبي أو أي محاولات انقلابية ستؤول بالأمور إلى مزيد من الانكشاف العربي لإسرائيل. أما بالنسبة للقادة، فهم مطالبون بأن يقف كل منهم مدافعاً عن بلده وحامياً لمصالحه في وجه المخطط الموسوم “مشروع الشرق الأوسط الجديد” هذا المخطط الغامض له منظروه.
فمنهم من يقول إن خرائط بعض الدول العربية سوف تتبدل لمزيد من التقسيم، وبعضها قد يشهد زيادة في مساحته. ومنهم من يقول إن مشروعات كبرى ستقام في المنطقة لتمكن إسرائيل من الهيمنة ولكي تكون عرّابة المنطقة حيال الاقتصاد العالمي. وآخرون يطرحون فكرة المحاور العربية مثل محور الخليج، ومحور المغرب العربي، ومحور الهلال الخصيب. ولكن ما هو المشروع العربي لمواجهة هذه المخططات وكيف سينفذ؟
في تقديري أن الجهد العربي يجب أن يدرك أن الغموض والمخطط الدولي الاستعماري للمنطقة سيجعلانه يتصرف كأن ليس له أصدقاء، بل سيقوم بوضع مخططاته ورسوماته حسب مصالحه، وسوف نعود إلى عالم سايكس بيكو ولكن بشركاء مختلفين. صحيح أن المملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة ليست على وفاق.
ولكن لا يمكن لدولة مثل ألمانيا أن تنسى مصالحها لدى العالم العربي. ومن هنا، فإن الولايات المتحدة ستكون المستفيد الأكبر بتحالفها مع إسرائيل، وستسعى المملكة المتحدة إلى أن يكون لها دور ولو تحت مظلة الولايات المتحدة، أما فرنسا فليس لها إلا مدخل لبنان (وهو ضيق)، وربما تحظى ببعض النصيب في المغرب العربي، أما ألمانيا فسوف تسعى للحفاظ على أسواقها دون أن يكون لها نفوذ سياسي يذكر.
أما إيران، فإنها سوف تتحرك تدريجياً لتحسين قدرتها التفاوضية والشروط الموضوعية المحسنة لتلك الشروط. ومن أهم الأوراق بيدها هي القدرة النووية، والبناء الداخلي. ولكن مع الوقت، فإن إيران سوف تغير من منهجها المعادي لإسرائيل حتى يتمكن نظامها من التفاهم مع الغرب، وحتى تعيد توزيع مواردها المالية للإنفاق على الاقتصاد الإيراني الذي يشكو الأمرّين.
أما تركيا، فهي على الأرجح ستعود بقوة بعد انتهاء فترة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى نظام العلمانيين والأحزاب الوطنية التركية لتحسن مقبوليتها لدى أوروبا والغرب، ولكي تتمكن من البناء على علاقاتها الخارجية مع روسيا وإيران ووسط آسيا، وتدير ظهرها للعرب والقضية الفلسطينية.
في تقديري، إن ظروف ما بعد انتهاء الحرب ستشهد إعماراً مكثفاً داخل قطاع غزة وداخل لبنان. وسوف تناضل دول مثل الأردن لكي تستفيد من حركة إعادة الإعمار. ولكن الأردن يجب أن يبقى متيقظاً وحذراً إلى أبعد الحدود من مخططات الحكومة الإسرائيلية الحالية، وهو أمام بعض الخيارات المهمة والتي أركز منها على ثلاثة أمور.
الأول: كيف ستكون علاقة الأردن مع الضفة الغربية أولاً ومع إسرائيل ثانياً. الأردن يجب أن يطور علاقات مهمة مع قطاع من الإسرائيليين واليهود في العالم ممن يرون في استقراره مصلحة لهم. وفي نفس الوقت، يجب أن يكون الأردن مستعداً لأي تهديد وجودي قد يسعى المتطرفون لفرضه عليه مثل قبول المهجرين من فلسطين، أو السعي لجعل الأردن وطناً بديلاً.
الثاني: أن الأردن استراتيجياً مهمٌ للمشروعات الكبيرة سواء كانت هذه المشروعات مطروحة من الغرب، أو من الصين (الحزام والطريق) أو مع الهند (الكوريدور الهندي) أو ما اتفق عليه من مشروعات مع الدول المجاورة مثل العراق وسورية ودول الخليج وإسرائيل إن صلحت العلاقات معها وفتحت الطريق إلى الضفة الغربية المحتلة.
الثالث: ضرورة استكمال المسيرة الإصلاحية في الأردن على أسس ثابتة لكي يحشد الأردن كامل طاقاته من أجل تطوير اقتصاده وإنتاجه وإدارته، والتحول الديمقراطي المتوازن الذي يرعاه الملك عبدالله الثاني ويصر عليه.