لقد تبين من مجمل ردود الفعل الدولية حول اغتيال السنوار، بأنها تمحورت حول الحث على إحياء صفقة تبادل الأسرى. مع أن ذلك ليس أكثر من نفاق سياسي للاستهلاك الإعلامي ، الأمر الذي يتجلى في موقف إدارة بايدن التي وإن كانت تضغط لوقف الحرب وإبرام الصفقة لكنها تتخذ منها ورقة مساومة مع نتنياهو لتفادي انعكاسات تصعيده العسكري في المنطقة على الانتخابات الأميركية وعلى المشروع الأميركي ومصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وعلى أولوياتها الدولية، وتتخذ من الدعوة لها والدعوة إلى إدخال المساعدات الإنسانية إلى شمال القطاع الذي يباد على مرأى العالم المجرم والأنظمة الهابطة ، التي تطعم أفواه لا تقوى على الغذاء ، كما تتخذ كل الدول قاطبة من هذه المساعدات درعًا واقية للنأي بالنفس عن تصرفات نتنياهو المنفلتة التي طالت تداعياتها صورة أميركا وقيمها الليبرالية المزعومة في المنطقة، وصورة الإدارة الديمقراطية في أميركا وفي داخل الحزب الديمقراطي، ومن أجل تشتيت انتباه أهل المنطقة عن جرائم الكيان المحتل وخطورة المشروع الصهيوني التوسعي الذي يسعى إليه نتنياهو وفريقه المتطرف، والذي تحاول أميركا ضبطه على إيقاع مشاريعها في الإقليم من خلال الضغط الإسرائيلي الداخلي والضغوط الغربية حصرًا، وليس من خلال محور المقاومة وأهل المنطقة حتى لا تخرج الأمور عن السيطرة، ولهذا لم نسمع زوبعة رفض مؤثرة إزاء حرق النازحين في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح قبل بضعة أيام، وإزاء المجازر اليومية في القطاع، علاوة على قمع كل من ينادي بنصرة غزة وأهلها بأشكال مختلفة.
ولا يخفى أن حرب الإبادة هذه لو كانت تتعلق بالأسرى لتوقفت في شهرها الأول بصفقة تبادل، لكنها أبعد من ذلك بكثير. وهو الأمر الذي يحتم
قراءة الموقف الداعي إلى وقف الحرب وإبرام الصفقة بعد تصفية السنوار وكلمة رئيس الوزراء الإسرائيلي في إطار استراتيجية الأخير وفريقه المتشدد وأهدافهم في الحرب وليس في إطار ملف الأسرى؛ ذلك أن قضية الأسرى إنما هي ذريعة يتخذها نتنياهو لتنفيذ أجندته السياسية وأجندة اليمين الصهيوني الديني بتصفية قضية فلسطين وفق مزاعمهم التوراتية؛ إذ يسعى نتنياهو إلى تحويل وظيفة كيانه من الردع إلى الهيمنة على الشرق الأوسط. بالإضافة إلى أهدافه الشخصية؛ ولذلك لم يكن مهتمًا أبدًا بتحرير الأسرى، بل إن رفع سقف مطالبه وشروطه كلما طرح مشروع صفقة للتفاوض يشي بأنه يريد أن يتخلص من الأسرى ويزيل أعبائهم عن كاهله ويتخذ من مقتلهم ذريعة لكسب الوقت ومواصلة أجندته في غزة والمنطقة. ولا سيما وأن جزءًا معتبرًا من أجندته يتقاطع مع أهداف أميركا بشأن تقويض محور المقاومة لصالح الحل الإقليمي.
كما لا بد من قراءة تبعات تحييد السنوار على مسار الحرب وصفقة التبادل في ضوء موقف حماس ومحور المقاومة، والذي لا يستقيم مع شروط نتنياهو الداعية إلى استسلام المقاومة والحكم على نفسها بالإعدام على المستوى السياسي والشعبي. ولهذا فإن موقف حركة حماس الذي أعلنه خليل الحية في بيانه، بأن “أسرى الاحتلال لن يعودوا إلا بوقف العدوان على غزة والانسحاب الكامل منها وخروج أسرانا من المعتقلات” يجعل إبرام الصفقة ووقف الحرب كليًا أمرًا مستحيلًا. ومن ثم فإن دعوة الولايات المتحدة وحلفائها لاغتنام الفرصة وإبرام صفقة تبادل للأسرى ليست إلا للاستهلاك الإعلامي وكسب الوقت أيضًا حتى انتهاء الانتخابات الأميركية التي تشكل عائقًا أمام المقاربة الأميركية المختلفة عن مقاربة نتنياهو في إدارة الحرب على غزة وحزب الله وتحجيم النفوذ الإيراني. حيث لا ترغب أميركا بأن يستغل نتنياهو مقاربتها المقيدة بالانتخابات في تحقيق أطماعه وأجندة اليمين الديني الصهيوني على جناحها. ولذلك وكما يبدو تعمل إدارة بايدن على مسايرة نتنياهو والتراخي معه بشأن صفقة التبادل، وتحاول الضغط عليه من الداخل، ولعل إشارة بايدن في تعقيبه على تصفية السنوار إلى اليوم التالي بعد حماس وتصريحه الأخير “نريد مستقبلًا أفضل لغزة دون وجود حماس وتدخل إيران”، يختصر الموقف الأميركي من مسار الحرب في المنطقة. إذ يحاول بايدن أن يجعل قضية الأسرى هي مركز استراتيجية الحرب الإسرائيلية على الجبهة الفلسطينية وتمكين نتنياهو من تحقيق صورة النصر التي يريدها فقط، ولهذا صرح بعض المسؤولين الأمريكيين بحسب شبكة “سي إن إن” بأن “مقتل السنوار يمثل لحظة مهمة لإعلان نتنياهو ما سموه بالنصر في غزة”. ومن ثم يحاول بايدن أن يمنع نتنياهو وعصابته من إعادة احتلال شمال غزة وإعادة الاستيطان في شمالها وتنفيذ مخطط التهجير في القطاع والضفة الغربية، كما يحاول تقويض قوة إيران وأذرعها على الجبهة اللبنانية والسورية والعراقية واليمنية، وإعادة هيكلة أنظمة هذه الدول بما يتلاءم مع مسار التطبيع العربي الإسرائيلي والحل الإقليمي، ومنع نتنياهو من الإخلال بتوازن القوى عبر حرب واسعة تقلب أولوية بناء الدفاع الأميركي في مواجهة الصين وروسيا.
فبينما يسعى نتنياهو لكسب الوقت لفرض الوقائع الكفيلة بتحقيق أهدافه قبل نتائج الانتخابات الأميركية فإن بايدن يحاول تأجيل مقاربته في إدارة ملف الشرق الأوسط وإعادة ترتيب أولوياته الاستراتيجية إلى ما بعد الانتخابات الأميركية الحساسة، وبخاصة وأن ثمة توافقًا بين أجنحة الدولة العميقة في أميركا على ملف مواجهة الصين وتغيير البيئة الأمنية الأوروبية عبر الحرب الأوكرانية لصالح حلف الناتو ودوره في ترسيخ القيم الليبرالية على مستوى العالم، واتخاذ تلك القيم الهابطة بوابة لتوسيع دور حلف الناتو لتأمين المصالح الأميركية وتزعُّم الولايات المتحدة للموقف الدولي.
وأما نتنياهو فلا يستطيع أن يجاهر بأن السياسة التي يتبعها تقدم مصلحة الكيان وأجندة شركائه في الحكومة وأهدافه الشخصية على مصلحة الأسرى، وأن استعادة الردع وتحقيق أحلام الكيان أولى من استعادة الأسرى. ومن هنا وبرغم إيحاء كلمته الموجهة للداخل الإسرائيلي بالاهتمام بقضية الأسرى إلا أنه سيواصل تمسكه بشروطه لإعاقة إبرامها متعذرًا بتعنت حماس. فيما يسعى عمليًا إلى العودة بملف غزة إلى ما قبل سنة 2005؛ أي إلى إبقاء القطاع تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية. وإبقاء شمال القطاع تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية المباشرة وهو ما شرع به فعليًا عبر “خطة الجنرالات” والإبادة والتجويع والتهجير. ولذلك من غير المرجح أن يتحرك ملف صفقة تبادل الأسرى بعد تصفية السنوار، ومن الأرجح أن يخرج نتنياهو بعد الانتخابات الأميركية بالإعلان عن وقف “حالة الحرب” مع استمرار السيطرة العسكرية والأمنية على القطاع كأمر واقع، والتحول إلى العمليات العسكرية والأمنية في غزة كنوع من استنزاف المقاومة أو إنهائها.
ومن المرجح أيضًا أن يحرص نتنياهو على مواصلة تهميش ملف غزة، والتصعيد مع إيران وحزب الله وسوريا في الأيام القليلة المقبلة التي سترتفع فيها الضغوط والأصوات المنادية بإبرام صفقة التبادل عقب تصفية السنوار. كما سيحرص على توظيف تصفية السنوار في تعزيز المسار العسكري لتنفيذ أجندته بذريعة نجاحه في تدمير حماس وقتل قيادتها، ولهذا صرح في كلمته أنه: “بات واضحًا للجميع لماذا لم نوقف الحرب حتى الآن”. وقال إن “قتل السنوار يقرب من تحرير الأسرى”. وفي رسالة للغرب لتحصيل دعمهم قال إن “النور ينتصر على الظلام في غزة وبيروت وفي الشرق الأوسط”.