“عقيدة السنوار”: عن ثلاثية السجن والنفق والمخيمكتب: أحمد نظيف

«وحش غزة»، «جزار خان يونس»، «القاتل والشيطان»، بهذه الألقاب تصف الصحافة العبرية والغربية قائد حركة حماس يحيى السنوار. بمزيج من الكراهية والإعجاب، يكتب الصحفيون والمحللون الغربيون سيرته، ويعيدون كتابتها. لا جديد في المقاربة البيضاء لعوالم الجنوب: يُختزل العدو دائمًا في شخص، يحمل على ظهره كل الشرور، فهو الشيطان المطلق الذي يجب القضاء عليه. لكأن هذا الفرد قد نزل من السماء كالصاعقة دون أن تكون له جذور في الأرض. في كل حقبة من حقب الصراع يصنع الكيان الإسرائيلي «شيطانه» الخاص، مختزلًا في شخصه أعداءه. عبد الناصر وياسر عرفات وأحمد ياسين وحسن نصر الله، واليوم يحيى السنوار. يؤسطر هؤلاء «الشياطين» في عيون جمهوره، ثم يجعل القضاء عليهم دليلًا من دلائل النصر والقوة. لكن هذا الاختزال لا يلعب فقط دورًا في بناء رمزية النصر، ولكن يقوم بفكّ الصراع عن جذوره، فعندما يتحول الصراع ضد فرد، ينجح العدو في إلغاء التنظيم الاجتماعي الذي ولد وبزغ منه هذا الفرد. والحال مع السنوار هنا هي إلغاء جذر الصراع الأصلي وهو الاحتلال.

إن أي فرد، ومهما كانت قدراته الشخصية والروحية، هو في المحصلة النهائية نتاج التنظيم الاجتماعي. يلمّح بليخانوف بين ثنايا نصه العبقري والمكثف: «دور الفرد في التاريخ»، هذه الجزئية على نحو دقيق: «إن الأفراد، بحكم خصالهم وسجاياهم، يمكنهم التأثير على مصير المجتمع. في بعض الأحيان يكون هذا التأثير كبيرًا جدًا. لكن إمكانية ممارسة هذا التأثير ومداه يتحددان بشكل تنظيم المجتمع، وبعلاقة القوى داخله. إن شخصية الفرد هي عامل من عوامل التحول فقط حيثما ومتى وإلى الحد الذي تسمح به العلاقات الاجتماعية. يمكن أن يقال لنا أن مدى التأثير الشخصي يمكن تحديده أيضًا من خلال مواهب الفرد. نتفق. ولكن لا يمكن للفرد أن يظهر مواهبه إلا عندما يحتل المكانة اللازمة في المجتمع».

إذن، بين إغراقه في السحر، ونزع السحر عنه، تبدو شخصية السنوار مثار اهتمامٍ على نحو لا يمكن لأحد تجاهله في هذه الأوقات العصيبة. لذلك لا تسعى هذه المحاولة إلى كتابة سيرة مختصرة للرجل، ذلك أن جهدًا كهذا يحتاج أكثر من المعلومات المنثورة على المواقع والصحف، التي يصدر أغلبها عن مصادر إسرائيلية، وإنما تريد -دون ادعاء اليقين- فهم هذه الحالة «السنوارية» ودورها في صناعة التاريخ، الذي مازال راهنًا على نحو شديد الرخاوة متحولًا في كل يوم نحو وجهةٍ جديدةٍ.

تختصر سيرة السنوار سيرة جيل فلسطيني عاش حياته على أرض رخوة، وسيرة طبقة من طبقات المجتمع الفلسطيني دفعت ثمن نكبة فلسطين بشكل مضاعف، وسيرة فئة من فئات الشعب الفلسطيني ألقت بها الأقدار في غزة، فدفعت أثمان اللجوء والنكبة غاليًا أكثر من أي فئة أخرى داخل الوطن المحتل أو في الشتات. لذلك، فإن محاولة فهم شخصيته التي تنطلق من تحليل السطح الظاهر، من خلال قراءة راهن المعركة الدائرة، تحتاج أيضًا نفوذًا إلى العمق الاجتماعي والنفسي والتاريخي للرجل ومجتمعه.

الأخلاط الأربعة
قبل عامٍ من انطلاق طوفان الأقصى، ظهرت السيرة الذاتية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تحت عنوان «بيبي: قصة حياتي». في هذا النص الطويل كشف الرجل عن خلاصة عقيدته في إدارة الصراع. ومن خلال مزيج من الجهل والغطرسة، بدا له أن الحل النهائي لهذا الصراع الطويل بيده. كانت فكرة نتنياهو بسيطة، ولكنها حتى السادس من أكتوبر كانت تجد لها شواهد قوية في الواقع، حيث تقوم على الفصل بين الضفة الغربية والقطاع والقدس من خلال تغذية الانقسام، وسياسة الجدار الحديدي حول غزة، وتطبيع علاقات «إسرائيل» مع العرب دون الحاجة إلى حل المسألة الفلسطينية. حققت هذه العقيدة نجاحًا نسبيًا، فقد بدا أن العالم لم يعد مهتمًا بالصراع، وأن جزءًا من العرب يريدون المُضي في طريق التخلص من هذا الحمل الثقيل، وكادت أن ترمي بالقضية الفلسطينية داخل قبر عميق. لذلك كان هجوم السابع من أكتوبر هو القبر الذي رُميت فيه «عقيدة نتنياهو». وبضربة واحدة سقطت أركان الخطة الأربعة: إفشال خطة فصل ساحات فعل الشعب الفلسطيني عن بعضها البعض، وسقوط الجدار الحديدي، وانهيار نظرية تطبيع وضع «إسرائيل» عربيًا دون حلّ المسألة الفلسطينية، وإحياء جذوة الحالة الشعبية العربية الداعمة لفلسطين، وكذلك إعادة قضية فلسطين إلى مركز الاهتمام العالمي.

إن هجومًا من هذا النوع، خاطفًا في حيز الزمن، ضيقًا في حيز الجغرافيا، يحقق كل هذه الأهداف دفعةً واحدةً، لابد أن يصدر عن عقل متفرغ تمامًا لدراسة العدو. وعن كيان تنسجم فيه القيادة السياسية مع القيادة العسكرية كأنهما دماغ واحد في رأسين، حيث تبدو بصمة العمل الثنائي بين يحيى السنوار، ومحمد الضيف، قائد أركان القسام واضحة. وربما يعود هذا الانسجام إلى جذور أكثر عمقًا تتعلق بالرجلين من حيث الأصول، وتقاطع حيواتهما في مفاصل شخصية وطبقية وتاريخية، جعلتهما يفكران على نحو متطابق.

تقوم «عقيدة الضيف-السنوار» السياسية-العسكرية في مواجهة العدو على خليط من أربعة أساسيات استراتيجية تتعلق بـ«فن الحرب». الأساس الأول هو ما يمكن أن نسميه «مبدأ بن غوريون مقلوبًا»، حيث تستعير قيادة المقاومة جزءًا من صياغة مفهوم الدفاع التي وضعها بن غوريون عام 1953، لحماية الكيان القائمة أولًا على الهجوم السريع والخاطف، ذلك أن أي حرب طويلة يمكن أن تهدد وجود الكيان، وثانيًا المبادرة بالهجوم كأفضل وسيلة للدفاع، وثالثًا نقل المعركة إلى أرض العدو. لم يكن بن غوريون عبقريًا إلى درجة أن يتحول إلى منظّر استراتيجي، ولكنه كان صاحب تجربة في حرب العصابات بوصفه قاد عصابة ساهمت بشكل أساسي في احتلال فلسطين عام 1948، ولديه وعي كبير بقدرة هذا النوع من القتال في تحقيق الأهداف. كما أن وصاياه هي ترجمة شبه حرفية لوصايا المنظّر العسكري الصيني سون تزو في كتابه «فن الحرب».

أما الأساس الثاني لعقيدة «الضيف-السنوار»، فهو «توظيف ضباب الحرب». ولد هذا المصطلح في معركة واترلو، آخر معارك الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، لكنه تحول إلى مفهوم على يد الجنرال والمؤرخ الحربي البروسي، كارل فون كلاوزفيتز، لوصف الافتقار إلى المعرفة الواضحة في الحرب، «فالحرب هي عالم عدم اليقين؛ ثلاثة أرباع الأشياء التي يرتكز عليها العمل العسكري تكمن في ضباب عدم اليقين الكبير إلى حد ما. وهنا يتم استدعاء الفهم الدقيق والثاقب من أجل الشعور بالحقيقة أو حتى الاقتراب منها». على نحو شديد البراعة نجحت قيادة المقاومة في تضليل العدو، والنظر في مذكرات نتنياهو يكشف عن أن الرجل كان غارقًا في الضباب، لا واقعًا في عدم اليقين فحسب، بل واثقًا باليقين الزائف. لذلك كان وقْع هجوم السابع من أكتوبر قويًا، فقد خلف جرحًا نفسيًا مستويًا في قوته لحجم الغطرسة الإسرائيلية التي ترسخت طبقاتٍ فوق بعضٍ منذ هزيمة حزيران 67 وحتى اليوم.

أما ثالث الأخلاط الأربعة فهو اللعب على «التناقضات داخل معسكر العدو». فقد جاء الطوفان في الوقت الذي كان فيه المجتمع الإسرائيلي في أكثر لحظاته التاريخية انقسامًا. وبدا من اللحظة الأولى للحرب أن هذا الانقسام أكثر عمقًا من أن ترمّمه الوحدة في مواجهة المقاومة. كما تجلى هذا اللعب على التناقضات الداخلية، وبشكل أكثر براعة، خلال مجريات المعركة من خلال استغلال قضية الأسرى عبر الرسائل التي ترسلها المقاومة إلى عائلاتهم، وتعميق الخلاف بينهم وبين قيادتهم السياسية والعسكرية. أما المبدأ الرابع، الأكثر استراتيجية في إدارة الصراع، فهو الوعي بأن الصراع يحتاج نفسًا طويلًا، وأن كسبه لن يكون بالضربة القاضية بل بالنقاط. وفي ظل اختلال ميزان القوى ليس أمام الضعيف إلا جولات متتالية، يكسب فيها النقاط ويعزز خلالها مواقعه. إن عدم السقوط في أوهام المعارك النهائية والفاصلة والحاسمة، يعطي هذه العقيدة أرضًا صلبةً تقف عليها، مستفيدةً من تراث طويل لمعارك التحرر الوطني، التي قامت على طول النفس، والوعي بفداحة الثمن الذي يجب دفعه، وتدفيع المحتلّ وحاضنته ثمن الاحتلال، ورفع كلفته في كل جولة، ومراكمة الانتصارات الصغيرة. لقد دفعت الخيبة النفسية التي خلفتها أوهام المعارك الفاصلة والنهائية، أجيالًا كثيرةً وقيادات مقاومة ونظمًا عربيةً نحو اعتناق الهزيمة، والتسليم بالأمر الواقع، ذلك أنهم لم يكونوا واعين بالقدر الكافي بفلسفة معركة التحرر الوطني، التي تملك تعريفًا متمايزًا للنصر والهزيمة، عن التعريف السائد في الحروب النظامية بين الدول.

السر والظلام والمقاومة
كيف يمكن لهذه العقيدة الاستراتيجية أن تنجح أو تنفذ في حيز جغرافي صغير جدًا، محاصر ومطوّق من كل جانب، بسماء مفتوحة وأرض بلا تضاريس وعرة ولا جبال؟ إن السرّ يكمن في جوف الأرض. ذلك أن وضعَ موازين القوى المختل بين دولة ذات قدرات دفاعية عالية كمًا ونوعًا، وقدرات استخباراتية من بين الأقوى دوليًا، وتحالفات متينة مع الإمبراطورية المهيمنة، يجعل عملية المواجهة فوق الأرض مجرد عملية انتحارية، فيما يحيل الولوج إلى جوف الأرض كل هذه القدرات العسكرية والاستخباراتية خارجَ الخدمة. منذ بداية العدوان على قطاع غزة، أدخلت «إسرائيل» إلى الخدمة سلاحها الأقوى؛ القصف الجوي، وقد نجحت إلى حد بعيد في تدمير كل ما يوجد على سطح الأرض، حجرًا وبشرًا، لكن هذا السلاح القوي الذي رسم خطوط الردعّ طويلًا بين الكيان وجواره العربي، يبدو عاجزًا عن الظفْر بأي مقاوم، إلا إذا تصادف وجوده على الأرض عائدًا إلى عقدة قتالية أو مشتبكًا مع الجنود وجهًا لوجه.

حُفرت هذه الأنفاق، فيما كان يحيى السنوار في السجن، لم يكن مخترعها، لكنه اليوم يدير من خلالها المعركة بتحكم واضح في القيادة والسيطرة. ربما كانت عبقرية محمد الضيف، هي من يقف خلف هذه المدينة السفلى في جوف غزة الصغير. فقد أدرك باكرًا، منذ انكسار الانتفاضة الثانية، أن سبل المواجهة فوق الأرض تبدو عديمة الجدوى، وقد توجه مستغلاً فك الارتباط الذي نفذه شارون منذ عام 2005 نحو تمديد شبكة الأنفاق، أفقًا وعمقًا، وتحسين جودتها. فالدفاع تحت الأرض يهدف إلى تضليل العدو وإجباره على التقدم لاستدراجه إلى ساحة معركة جديدة، وهذا التكتيك غير التقليدي يخلّ بالمعايير السائدة للنزاع المسلح ويعطل منطق المواجهات وجهاً لوجه. إن استخدام فن القتال من تحت الأرض، يلقي الرعب في صفوف العدو، ويفرض عائقًا على الشجاعة نفسها، لأن خوف الإنسان من خطر لا يستطيع تقديره أكثر من خوفه من خطر أعظم يعرفه. مع وجود المقاوم تحت الأرض، يصبح غير موجود بالنسبة للعدو على الجانب الآخر من خط المواجهة، ربما يكون تحت أقدامه وقادرًا على الخروج له من أي مكان دون أن يتمكن من رصده مسبقًا. لذلك نرى مقاطع فيديو ينشرها الاحتلال، يظهر فيها جنوده يقاتلون حفرةً أو حائطًا أو كومة ركام، فهم يطلقون النار على أشباح يشعرون بوجودها في المكان دون أن تكون ظاهرةً لهم. على النحو الذي يصفه سون تزو في «فن الحرب» قائلاً: «مهارة الدفاع تتطلب التخفي في المواقع الأكثر سرية وعزلة تحت الأرض، والمهارة تكون في السرعة الشديدة، وكأنهم يهبطـون مـن السماء كالطيور، بهذا يصبح الجيش قادرًا على حماية نفسه وإحراز النصر». فالعبقرية في هذه الحروب تكمن في فعل أشياء عظيمة بوسائل محدودة في مواجهة عدو يملك كل الوسائل بشكل غير محدود.

إن الوجه الثاني من وجه رمزية النفق، بوصفه فضاء المقاومة وحاضنتها، هو فكرة الحدود. تفرض الحرب غير النظامية على المقاوم مبدأ الصمود، فالمقاوم ليس فردًا في جيش نظامي لديه رفاهية الانسحاب، بل يستمد كامل وجوده من صموده في الأرض. تمثل الحدود، في الفضاء المستوي لسطح الأرض، الخط الفاصل بين الصديق والعدو في أساس السياسة، كما يعرفها كارل شميتّ. إن الحدود، وهي موضوع صراع متواصل بين الجيوش النظامية المتصارعة، هي نقطة الارتكاز المادية التي تنظم الحرب التقليدية. لكن في حرب غير نظامية، كالتي تجري اليوم في غزة، لا تعني الحدود شيئًا بالنسبة للمقاومة. لأن جوهر المعركة هو الصمود، فوق الأرض أو تحتها، لذلك فإن النفق يتيح لها هذا الصمود والتخفيف من وضع اختلال التوازن.

أما الوجه الأخير، فهو نظرة العدو لهذه المسألة. في سيرته الذاتية يتحدث نتنياهو عن الأنفاق في فصل بعنوان «أنفاق 2014»، واصفًا عملية كشف خطر الأنفاق التي تخترق الأراضي الإسرائيلية، بالإضافة إلى الأعمال التي قام بها قائلًا: «في العامين اللذين سبقا عملية تسوك إيتان (الجرف الصامد 2014)، قمت بدعوة الوحدات التكنولوجية المختلفة في جيش الدفاع الإسرائيلي عدة مرات. قلت: يجب أن نجد طريقة للتعرف على حفر الأنفاق وموقعها الدقيق. لقد اتصلت شخصيا برؤساء الدول ومديري الشركات المتعددة الجنسيات، بما في ذلك شركات الأقمار الصناعية، بحثًا عن حل. ولم نجد حلاً. وفي 17 حزيران، بدأنا المرحلة البرية من العملية. دخلت قوات المشاة إلى القطاع واكتشفت عددًا أكبر من المتوقع من الأنفاق، وتم تحييدها باستخدام المتفجرات وخراطيم المياه وحقن الإسمنت. كانت المهمة معقدة حسب التصميم. وبدلًا من ثلاثة أيام، استغرق الأمر ثلاثة أسابيع لإنجازها (..) كنت مصممًا مع معظم الوزراء في الحكومة على إكمال المهمة وتدمير الأنفاق. وعندما حققت قواتنا الهدف قمت بإعادة عقد مجلس الوزراء. أصدرت قرارًا بسحب القوات البرية من القطاع. والآن بعد أن انتهت مهمة تحييد الأنفاق، لم يعد هناك سبب لتعريضها للخطر، أخبرت الوزراء بما اتفقت عليه مسبقًا مع غانتس ويعالون». يُظهر نتنياهو ثقةً كبيرةً بقدرته على تحطيم أسطورة الأنفاق، لاسيما تلك التي تؤدي إلى داخل «إسرائيل». ثم يعدد مواهبه في كسر شوكة المقاومة بالحديث عن مشروع الحاجز تحت الأرض على طول 70 كم من الحدود مع غزة، والذي اعتقد أنه سيكون بمثابة درع فعال ضد أنفاق الهجوم المستقبلية، بكلفة فاقت المليار دولار. وهنا يظهر تضافر عاملين في انكسار هذا المشروع، أولًا غطرسة نتنياهو، معتقدًا بأن الحاجز سيعصمه من دفع تكاليف سجن أكثر من مليوني شخص في مستطيل ضيق بلا أفق، وثانيًا قدرة المقاومة على إنتاج اللامتوقع، وهو جوهر فن الحرب، فهي لا تعيد تكرار عملياتها ضمن نسخ مكررة، مسترشدةً بوصية سون تزو: «لا تكرر التكتيك الذي أوصلك إلى النصر مرة، وإنما اجعل طرائقك متنوعة بالمطلق حسبما تمليه الظروف». لذلك كانت «إسرائيل» تتوقع دائمًا أن يأتي الهجوم من تحت الأرض، لكنه جاء هذه المرة من فوقها.

لم يبق عنده ما يبتزه الألم

إن خصال القائد الذكي والجريء والمجرِّب تظهر بوضوح في مسار المعركة، وفي كونها ليست حربًا مطلقة، بل ذات رهان سياسي. لكن السؤال الذي يبقى معلقًا، هل أن هذا القائد، المتناغم مع قيادته العسكرية ويدير في الوقت نفسه ملفه السياسي بصبر وجدارة، ويقود تحولًا جذريًا في صراع هو الأكثر تعقيدًا في عالمنا اليوم، نتاج مواهب فردية، أو حصيلة تجربة جمعية، ساهم العدو بقدر كبير في رسم ملامحها؟ إن نزع السحر عن الفرد، وفهم هذه الظاهرة السنوارية ضمن قوانين التاريخ هو السبيل الأحسن لفهم المأساة متعددة الوجوه التي تكلل وجود السنوار كفرد وكحالة نموذجية لأجيال من الشعب الفلسطيني.

في السجن الطويل الذي تجاوز العقدين عاش يحيى السنوار أهم سنوات حياته. الثلاثينات والأربعينات؛ سنوات التكوين والنضج. وداخل السجن بدأ يتعرف على العدو، مكتسبًا لغته ومتابعًا وسائل إعلامه، ومحادثًا أفراده. لم يعد العدو بالنسبة إليه مجرد دورية تدخل شوارع خان يونس، أو بضائع ممهورة بالعبرية تدخل من معابر القطاع إلى داخله، ولا أوراق الشيكل النقدية المتداولة في أسواق القطاع. العدو أصبح واضحًا؛ مؤسسات وإعلام وأجهزة أمن وقضاء. وبإتقانه اللغة أصبح داخل عالم العدو الحميم، يدرك مخاوفه وهواجسه وعواطفه المبثوثة في الكتب والصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية. ثلاثة وعشرون عامًا من المعايشة اليومية والمحايثة والصراع والحوار والإضرابات، كانت كافية للسنوار لكي يبني صورةً متكاملةً عن هكذا عدو، وأن يعرف مكان ضعفه والثغرات التي يمكن أن يلجَ له منها.  وفي السجن الطويل، الذي كان مؤبدًا، سقط الرجل مريضًا، ووقف على حافة الوجود، ثم عاد من بعيد، في هذا الفضاء المغلق، الذي يتحول منذ اللحظة الأولى إلى فضاء للتأمل، عالم منفصل حيث يفقد الزمان والمكان إحداثياتهما «لم يبق للسنوار ما يبتزه الألم»، كما يقول الجواهري. وهنا صنع العدو أخطر أعدائه، حين ينتج من خلال سياسته جيلًا لم يعد له ما يخسر، وفي الوقت نفسه يمنحهم المكان والوقت للتأمل في صناعة ثأرهم. لذلك لا غرابة بأن السجن كان دائمًا المكان المناسب للكثير من قيادات التحرر الوطني كي يضعوا برنامج التحرير ويتأملوا فيه وفي عدوهم على نحو لا يتسنى لهم خارج أسواره.

في البدء كان المخيم
لكن السجن وحده، كمرحلة ومكان، لا يمكن أن يفسر شخصية يحيى السنوار القيادية، لذلك لابد من العودة إلى ما قبل السجن، وتحديدًا إلى مخيم خان يونس جنوبي قطاع غزة. ولد السنوار في عائلة نزحت من عسقلان إلى خان يونس في أعقاب نكبة 1948. اللجوء الذي كان من المفروض أن يكون مؤقتًا داخل خيام تحول بعد سنوات إلى حالة دائمةٍ في دور إسمنتية ضمن ظروف حياتية صعبة، تتقاسمها جميع المخيمات داخل فلسطين وخارجها. إن صدمة اللجوء والنكبة، ساهمت في تحويل وجهة آلاف الشبّان الفلسطينيين نحو المقاومة، ولم يكن غريبًا أن المخيمات في فلسطين والأردن ولبنان وسوريا كانت دائمًا طليعة أي مقاومة فلسطينية مهما اختلفت أرضيتها الإيديولوجية. لكن اللجوء داخل فلسطين كان صدمةً مضاعفةً. ينتمي السنوار إلى الفئة التي دفعت الثمن مضاعفًا، فأن تكون لاجئًا داخل وطنك، خاضعًا للاحتلال، فذلك يمثل قمة المأساة، وإعادة إنتاج النكبة كل صباح. ضمن هذه الفئة وفي الظروف نفسها عاشت قيادات المقاومة في غزة، بدايةً من محمد الأسود (جيفارا غزة) (1946–1973) وصولاً إلى أحمد ياسين ومحمد الضيف ويحيى السنوار وغيرهم. فالطفل ثم الشاب والرجل، الذي يعيش في أزقة المخيم، ويكابد في الوقت نفسه الاحتلال، أي يدفع ثمن النكبة طبقيًا ووطنيًا كل يوم، يكون الدافع عنده في المقاومة والتصميم أكثر قوةً. ولذلك تشكلت النواة الأولى للمقاومة في غزة، ضمن علاقات قرابيّة أو رفاقية أو جوار لأشخاص يتقاسمون مأساة اللجوء الموروث. وهو الأمر نفسه في مخيمات الضفة الغربية. وبعد أن سيطرت «إسرائيل» على القطاع بالكامل، في أعقاب هزيمة حزيران، تطورت نشاطات المقاومة الفلسطينية انطلاقًا من مخيميْ الشاطئ وجباليا على نحو واسع في السبعينيات من خلال مجموعات «الجبهة الشعبية»، عبر شن هجمات ضد الإسرائيليين باستخدام وسائل بسيطة، خاصة الألغام التي تم التخلي عنها قبل الحرب والقنابل اليدوية. وخلال الانتفاضة الأولى لعبت مخيمات غزة دورًا مركزيًا في إدارة الصراع، ثم جاءت عمليات مجموعات حماس، التي اتخذت من المخيمات حواضن أساسية لبدايات عملها العسكري والسياسي. وفي الضد من ذلك يبدي الكيان الإسرائيلي شراسةً في مواجهة مخيمات غزة.

خلال حرب 1967، قال رئيس الوزراء ليفي أشكول في اجتماع داخلي لحزب مباي، في 8 حزيران، عندما لم يكن احتلال سيناء قد اكتمل والجولان مازالت سورية: «مثلما لدي رغبة كبيرة في الاحتفاظ بالجولان، لدي شغف كبير بغزة. ربما بسبب شمشون بن منوح (بطل شعبي يهودي عاش جزءًا من حياته في غزة). عندما ترى الخريطة، مع الإصبع المصري للشريط عليها، تريد الاحتفاظ بالشريط في يدك. لكن في نفس الوقت هذه وردة بها أشواك كثيرة. فيها آلاف العرب اللاجئين». يرى الإسرائيلي في المخيمات جريمته الأصلية، لذلك فهو يخشاها، أي يخشى الثأر، بوصفها معاقل المقاومة، وأيضًا بما تمثله من تذكير دائم باللجوء الفلسطيني، ذلك أنه يريد إغلاق حساب عام 1948، باستكمال تهجير اللاجئين داخل فلسطين إلى خارجها. وهو ما بدا أشد وضوحًا في هذه الحرب، بظهور إرادة صهيونية لاستكمال النكبة إلى مداها الأخير.

في غزة، عاش يحيى السنوار الانتفاضة الأولى، التي انطلقت من القطاع لتعم كل فلسطين. لقد كشفت الانتفاضة، التي أنهت سنوات طويلة من الصمت، واقعًا جديدًا في تكوين الوعي الوطني الفلسطيني، من خلال بروز جيل شاب ومتعلم، وفي الحالة الغزية تميزت بعنصرين: مخيمات اللاجئين والجانب الإسلامي. حيث شكل المخيم مركز العمل والإسلام أيديولوجيته. كان واضحًا أن عقد الثمانينيات الثقيل، وابتعاد منظمة التحرير إلى تونس، وخفوت جذوة العمل المسلح، قد أنهت الهيمنة اليسارية والقومية على قيادة العمل الوطني، ودفعت بلاعب جديد هو الإسلاميون إلى الواجهة، مستفيدين من تركيز الاحتلال على مواجهة منظمة التحرير والمنظمات اليسارية، ومن صعود عالمي للدين كفاعل في السياسة.

في تحليله لمعضلة خصال الفرد ودوره في صنع التاريخ، يذهب المؤرخ الفرنسي غابرييل مونود إلى أن الحوادث العظيمة والرجال العظام (والنساء أيضًا) هم حصيلة الحركات العظيمة الوئيدة التي تطال الشروط الاقتصادية والاجتماعية التي تشكل القسم الهام والدائم في التطور الإنساني، والذي يمكن تحليله بالتأكيد، وبطريقة تقربه من القانون. فالحوادث والشخصيات البارزة هي شارات ورموز لمختلف فترات هذا التطور. فزقاق المخيم، ومهاجع السجن، وزواريب الأنفاق، هي من صنع هذه العقلية السنوارية الفذة. ولكن معظم هذه الظواهر، التي توصف بالتاريخية، هي بالنسبة إلى التاريخ الحقيقي كنسبة الأمواج التي تطفو على سطح البحر إلى الحركة العميقة الدائمة للمد والجزر، فهي -أي الأمواج- تتلون لفترة من الزمن، بجميع ألوان الضوء، ثم تتناثر على الشاطئ دون أن تخلف منها شيئًا.

المصدر: حبر

عن Atlas

شاهد أيضاً

‏ عمر عساف يكتب : أي تضامن بمستوى التحديات

اطلس:حين تمتد المعاناة لقرن ونيف من الزمن، وحين تتعمق الالام والجراح سنة بعد اخرى وحين …