على الأرض، يقترب جنود الجيش الإسرائيلي أكثر فأكثر، وقد أحاطت بالمكان الدبابات والآليات العسكرية. ومن السماء، لا تتوقف طائرات الاحتلال عن شن الغارة تلو الأخرى، وما أن تهدأ هنا وتبتعد؛ تنشط غاراتها على المناطق المحيطة. يُسمع صوت طائرات المراقبة تزن وتزن، وهي تمسح كل سنتيمتر مربع في المنطقة. وسط ذلك كله، يتأمل الرجل ساعته، ثم يقول جملته مبتسماً وهو يدق بأصبعه على الساعة: شباب، مضلش وقت، لازم نحرر فلسطين1.
هذه المرة لم يقل يحيى السنوار أبو إبراهيم جملته وهو يجلس في اجتماع، مرتدياً بدلته الرسمية التي لطالما كرهها ولبسها مرغماً2، ولم يقلها وهو في داخل النفق (والنفق مفخرة) موجّهاً المقاتلين في الميدان، كجزء من المهمة الطبيعية لأي قائد حركة تحرير وظيفته الأساس التخطيط الاستراتيجي للمعركة وتوجيه مقاتليها وتفويت فرصة اغتياله على الأعداء. إنما قالها كما يُحب تماماً، وهو في صفوف القتال الأمامية، مرتدياً جعبته العسكرية، حاملاً بندقيته، يقاتل جنباً إلى جنب مع جنوده المقاومين، ويشتبك من مسافة صفر مع عدوه في قلب تل السلطان غرب رفح.
غلامٌ اسمه يحيى
29 تشرين الأول/ أكتوبر 19623، فرحة تعم منزل إبراهيم السنوار في مخيم خانيونس بعد قدوم مولوده الجديد: يحيى. طفل أسمر نحيل، ممتلئ بالنشاط. سريعاً ما يخطو خطواته الأولى، ويركض في أزقة المخيم يشاكس الجيران تارة، ويتودد إليهم تارة أخرى.
وما إن حلّ عام 1968، حتى التحق يحيى بمدارس المخيم، حيث أتم دراسته الإبتدائية والثانوية. ثمّ لاحقاً، درس اللغة العربية في الجامعة الإسلامية، ونشط خلال سنوات دراسته الخمس بالعمل النقابي، فكان أميناً للجنة الفنية واللجنة الرياضية، ونائباً مرتين لرئيس مجلس الطلبة، ثم رئيساً له
في تلك الفترة، سارع الاحتلال لردع يحيى السنوار بالاعتقال، لإجباره على الكف عن نشاطه الطلابي، فاعتقله أول مرة عام 1982 وهو بعمر 20 عاماً، على خلفية زيارته وأعضاء مجلس الطلبة نساء في مخيم جنين تعرضن لمحاولة تسميم من قبل إسرائيليين. وبعد أن أفرج عنه بأسبوع أعاد اعتقاله وحوّله للاعتقال الإداري لمدة ستة أشهر، كما اعتقل مرة ثانية وحُكم عليه بالسجن 8 أشهر.
من ثقة الشيخ إلى جهاز “مجد”
يشير السنوار في دراسته غير المنشورة: “حماس التجربة والخطأ”، أنه تسلّم خلال دراسته في الجامعة المتابعة الأمنية الميدانية في الجامعة الإسلامية، لحماية صلاح شحادة والحد من احتكاك الطلبة معه4، كجزء من عملهم في جهاز “أمن الدعوة” الذي أسسه الشيخ أحمد ياسين عام 1983، وكان هدفه بالأساس الحفاظ على الصف الداخلي للحركة، نظراً لتوسع وتزايد عدد عناصرها وأنصارها، وتجنباً لأي اختراق5. وفي عام 1985، تحوّلت مهام الجهاز إلى مهام استخباراتية تجاه العدو وعملائه.
لفتت شعلة نشاط السنوار وإصراره أنظار الشهيد الشيخ أحمد ياسين، فيما تدعي مصادر إسرائيلية أن السنوار حصل على ثقة الشيخ ياسين خلال اعتقالهما داخل السجون. ولذا في عام 1986، التحق السنوار بمجموعة رقم (44)، كما أسماها البيان الصادر عن حركة حماس في ذكرى تأسيسها الرابعة، وقد عملت المجموعة في إطار “مجد” (منظمة الجهاد والدعوة)، كجهازٍ أمنيٍّ للحركة، وكان السنوار قائد المنظمة التنفيذي، وقد قسّمت القطاع لتسهيل عملها إلى منطقتين: شمالية؛ تضمّ محافظتي غزّة والشمال، ويرأسها روحي مشتهى، وجنوبية؛ تضمّ محافظات الوسطى وخانيونس ورفح، ويرأسها السنوار. فيما تشكّلت قيادة الجهاز الأمني للمنظمة من الشيخ أحمد ياسين وروحي مشتهى ويحيى السنوار وخالد الهندي.
مزجت المجموعة آنذاك بين العملين الأمني والعسكري، فأعدمت المجموعة ما أسماهم بيانها “رؤوس العمالة”، وذلك بعد خطفهم وإخضاعهم لمجريات تحقيقٍ طويلة امتدت لشهور عدة وعلى مراحل مختلفة، وأحرقت المجموعة أماكن استخدمها جيشُ الاحتلال لإسقاط الشبان في غزّة وخانيونس ومناطق أخرى من القطاع. وعلى المستوى العسكري، أشار السنوار في كتابه “حماس التجربة والخطأ”6، إلى عمليات عدّة نفذتها المجموعة، مثل عمليات إطلاق نار استهدفت جنود الاحتلال والمستوطنين، وإلقاء عبوات ناسفة على آليات جيش الاحتلال، وحرق غابات بمساحات واسعة7.
كما تبنت المجموعة محاولات الهروب التي سعى لتنفيذها السنوار ومشتهى من سجني غزّة المركزي وعسقلان. ونقل البيان قول مدير سجن عسقلان في حينه: “لم تحدث محاولة هروب منذ خمسين سنة مثل هذه المحاولة التي قام بها معتقلو حماس”8.
وإضافة لما سبق، فقد رأى السنوار، كما جهاز مجد، أن مسؤوليتهم لا تنحصر فقط في تنفيذ المهام الأمنية والعسكرية وإنما أيضاً في إعداد المجتمع دينيّاً وأخلاقيّاً، وقد اتخذوا من الجامعة والجامع في قطاع غزّة ميادين للإعداد وحشد عناصر جدد للالتحاق بصفوف الحركة.
بعد هذه السنوات من العمل الشاق عاد الاحتلال مجدداً عام 1988 لاعتقال السنوار للمرة الثالثة، كجزء من حملة اعتقالات واسعة في صفوف الحركة، كانت تهدف للقضاء عليها ولقمع انتفاضة الحجارة. في حينها، تكرّر اسم السنوار على لسان عدد من المعتقلين نتيجة التعذيب، ما مكّن الاحتلال من جمع خيوط عمليات عديدة للمقاومة، لطالما فشل بالوصول إلى من خطط لها ونفذها. وها هو الآن بالصدفة، يجد بين يديه أحد المسؤولين عن هذه العمليات.
“القضاء على حماس”.. هل يقدر الاحتلال على ذلك؟
حُكِم السنوار بأربعة مؤبدات و30 عاماً، أي ما يساوي 426 عاماً، وذلك لدوره في تأسيس جهاز مجد، كما اتهمه الاحتلال بأنه وراء عملية اختطاف وقتل جنديين إسرائيليين، وقتل أربعة عملاء. وهكذا، ظن الاحتلال حينها أنه كتب نهاية رجلٍ شجاع ما زال في بداياته. ولكنه يحيى السنوار…
فرصة للجلوس في رأس العدو
“تحققون معي الآن لأني سأحقق معكم لاحقاً”9، قال السنوار لمحققيه في أيام اعتقاله الأولى، ولذا انكبّ على دراستهم إنفاذاً لوعده.
اقتنص السنوار السجن (وعزله لعدة سنوات أيضاً) فرصةً للجلوس في رأس عدوه، يتعلم لغته ويتقنها، وينكب على دراسته بالتفصيل. يتابع إعلامه، ويقرأ معظم ما يصل إلى السجن، حتى ترجم كتاب “الشاباك بين الأشلاء” لكارمي جيلون وكتاب “الأحزاب الإسرائيلية عام 1992”. ومن جهةٍ أخرى، يوثق تجربة المقاومة ويراجع أخطاءها ويدرسها، إذ وثق تجربته في رواية “الشوك والقرنفل” التي صدرت عام 2004، وكتب تجربة رفيقه أشرف البعلوجي عام 1991، وراجع تجربة الحركة في كتاب “حماس التجربة والخطأ”، كما رصد عمل الشاباك في تجنيد العملاء وزرعهم وأساليب ونظريات التحقيق في كتابه “المجد”.
شوك السنوار وقرنفله
تولى قيادة الهيئة القيادية العليا لأسرى حركة حماس في السجون لدورتين تنظيميتين، وانخرط مع الأسرى في تنظيم الإضرابات الجماعية عن الطعام والاحتجاجات وقيادتهم فيها (أبرزها في سنوات: 1992، 1996، 1999، 2000، 2004)، مطالبين بتحسين شروط اعتقالهم؛ بإنهاء عزلهم، والسماح لأهاليهم بزيارتهم وتلقي الصحف والاستماع إلى المذياع.
وحرص السنوار على استمرار تنفيذ العمليات ضد السجّان للمحافظة على العلاقة الطبيعية بين الأسير وسجانه، إذ انتقم ورفيقه روحي مشتهى من مسؤول سجن الرملة بإلقاء المياه الساخنة عليه رفضاً لمعاملته السيئة، ووجّه الأسرى في الوقت نفسه لإلقاء الصابون والزيت على الأرض لعرقلة تقدم قوات القمع، التي أربكتها الأرض اللزجة10. كما وجّه السنوار عدداً من الأسرى في أكثر من مرّة لتنفيذ عمليات طعن استهدفت السجانين11. ومن داخل أسوار سجن هداريم العالية، خطّط السنوار لتنفيذ عمليات خطف جنود إسرائيليين بهدف مبادلتهم مع أسرى فلسطينيين، وحسب المسؤول السابق في جهاز “الشاباك” يوسي أمروسي، فقد وجّه السنوار خليةً سعت لخطف جندي وتهريبه من نفق في رفح إلى مصر.
“رجل استراتيجي التفكير، عميق، صاحب ثقافة واسعة في التخطيط والأمن والعسكر والأدب، محبٌ للمطالعة”. يصف عبد الحكيم حنيني، القيادي في حركة حماس وأحد مؤسسي كتائب عز الدين القسام بالضفة الغربية، رفيقه في السجن يحيى السنوار، الذي كان يستيقظ فجأة من نومه في منتصف الليل ليدوّن فكرةً ما قبل أن ينساها.
وفي مقابل هذا الجانب الصلب، كان يحيى خدوماً دائماً لإخوانه، متواضعاً رغم مكانته التنظيمية. يروي عنه الحنيني في مقابلة مع بودكاست جسر: “كنا في عزل سجن بئر السبع، أبو إبراهيم من شدة حبه خدمة لإخوانه، أي حاجة يستطيع صناعة الحلوى منها كان يعملها لكل الزنازين، كان ينادي: ودولي صحون، في أكلة حلو”، فكان يصنع الحلوى كلما جمع من حصته من الطعام، عدداً من حبات التفاح أو كمية من الخبز والجبن.
وفي سياقٍ آخر، لما علم السنوار بأن صفقة تحرير الأسرى ستتم كما يريد الاحتلال بدون أسرى القدس عارضها وعطّلها، مع أن اسمه كان على رأس قائمة المفرج عنهم، وأصر على أن الصفقة لن تتم بدونهم، وهو ما حصل، ليؤسس بذلك قاعدةً تقضي بعدم استثناء القدس من أي صفقة قادمة.
كيف صار رئيساً للحركة في غزّة؟
في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، أطلّ السنوار برأسه من نافذة حافلة وصلت لتوها من السجون الإسرائيلية إلى قطاع غزة، وأخذ يلوح لجموع الناس الذين تجمهروا محتفلين بالأسرى المحررين في صفقة “وفاء الأحرار”. عاد إلى مخيمه خانيونس وهو بعمر 49 عاماً، كان رأسه يشتعل بالشيب، لكن روحه بقيت روح الشباب التي بدأ بها دربه. وفي تلك اللحظة تسلق على الحافلة أحد مقاومي القسام بلباسه العسكري ولثامه ليقبّل السنوار ويسلّم عليه قبل الجميع. كان السنوار فرحاً جداً بمقاتل القسّام، ربّما لأنه أدرك فجأة، أنه خلال 23 عاماً من اعتقاله، صار لحركته جيشاً يُحرّر الأسرى، ولذا حريّ به أن يُحرّر البلاد كلّها.
في عام 2012، انتخب السنوار عضواً في مكتب حركة حماس في الانتخابات الداخلية (متوقفة منذ عام 2008)، وتولى مهمة التنسيق بين المكتب السياسي للحركة وقيادة كتائب القسام، وأصبح ممثلاً للقسام داخل المكتب السياسي.
لم يأتِ وصوله إلى هذا المنصب من فراغ، بل هو نتاجٌ طبيعيٌ للمراكمة الأمنية والعسكرية التي شكلته بدءاً من جهاز مجد مروراً بسنوات اعتقاله وقيادته الهيئة العليا لأسرى الحركة. وبرزت أهمية المنصب الذي شغله السنوار خلال حرب الاحتلال على غزة عام 2014، إذ كان التنسيق بين الجسمين السياسي والعسكري للحركة فارقاً في ميدان المعركة.
وفي عام 2015، عُيّن السنوار مسؤولاً عن ملف الأسرى الإسرائيليين لديها12. يعلق الحنيني: “بعد تحرره وانتخابه في القيادة داخل غزة، اختار أصعب ملف، وهو مسؤولية العسكر، يعني حمل روحه على كفه بعد 24 سنة سجن.. ما يدلل على القناعات الداخلية عنده.. أن هذا هو الطريق، طريق تحرير الأقصى، طريق الخلاص من الاحتلال، طريق تحرير شعبنا الفلسطيني”.
وفي عام 2017 كانت المفاجأة الأكبر، إذ انتُخِب السنوار رئيساً لمكتب حركة حماس في غزة، فكان ذلك تعبيراً عن المزاج العام داخل صفوف الحركة بأولوية العمل العسكري وبأن العسكري والسياسي لا ينفصلان. وخلال سنوات ولايته الأربع، تمكن السنوار من التقدم في ملفات سياسية مهمة علقت لسنوات، أبرزها ملف المصالحة مع حركة فتح، ودفع بتحسين العلاقات مع مصر، وتوصّل لتوقيع اتفاقيات معها حول الأوضاع المعيشية والأمنية والإنسانية وإدارة الحدود.
ابتكار “مسيرات العودة”
بعد عامٍ على تولي السنوار مكتب غزّة انطلقت “مسيرات العودة” نحو السياج الفاصل مع الأراضي المحتلة عام 1948، وذلك في 30 آذار/ مارس 2018 في ذكرى يوم الأرض. استمرت المسيرات لشهور عدة كحراكٍ شعبيٍّ سلمي واجهه جيش الاحتلال بالنار والقذائف. فيما كانت حركة حماس، وعلى رأسها السنوار، داعمين ودافعين لهذا الحراك الذي طور أدوات مقاومة شعبية مبتكرة استطاعت أن توجّه أنظار العالم نحو حصار قطاع غزّة.
مسيرات العودة.. عن الإرادة والممكن
يقول السنوار: “هذه المسيرات أعادت إلى الوعي الفلسطيني والعربي والعالمي حقيقة تثبيت حق العودة، كأحد حقوق وثوابت القضية الفلسطينية.. وحقّقت هدفاً آخر وهو وضع القضية الفلسطينية من جديد على طاولة العالم (..) وأجبر العالم على نقاش قضية حصار غزة”. واستدرك، “هذا الخيار هو الخيار الأنسب لهذه المرحلة، واعتمدناه كأحد الخيارات الإستراتيجي للنضال.. نحن ذهبنا إلى هذا الخيار من منطق القوي المقتدر الذي يمتلك في ترسانته الكثير من وسائل القوة التي يمكن أن نلجأ إليها في كل لحظة إذا ما دعتنا الضرورات لذلك”. وكان السنوار في هذا الخيار، كأنما يعذر إلى نفسه باستخدام كل الأدوات السلمية الممكنة مع الاحتلال قبل اللجوء إلى الطوفان.
ومع ذلك، لم يفوّت السنوار فرصة الاستفادة من “مسيرات العودة”، فمن جهة مكّن القرب من السياج عناصرَ القسّام، الذين خلعوا زيّهم العسكري وكانوا جنباً إلى جنب مع المتظاهرين، من دراسته ودراسة أدوات الرقابة المتصلة به، وتعرفوا على توزع عناصر جيش الاحتلال وطريقة إدارتهم له. ومن جهة أخرى، ضلّل القسام استخبارات الاحتلال من خلال أداة المسيرات، إذ ظنّت قيادة الاحتلال بأنّ حماس غير معنيّة بالمواجهة، وهو ما تكثّف في مسيرات قبيل الطوفان عام 2023.
من السيف إلى الطوفان
وفي آذار/ مارس 2021، أعادت الحركة انتخاب السنوار رئيساً لمكتبها في قطاع غزة للمرة الثانية. وما إن مرّ شهر واحد على ذلك، حتى اندلعت معركة “سيف القدس” في 10 أيار/ مايو، بضربات صاروخية من قطاع غزة استهدفت مستوطنات “غلاف غزة” ومناطق عدة في عمق دولة الاحتلال، تصدياً لاقتحام المستوطنين المسجد الأقصى ولمخطط الاحتلال تهجير حي الشيخ جراح في القدس.
أذرع المقاومة الطويلة.. عن صواريخ “سيف القدس”
كانت المعركة إعلاناً من السنوار عن جهوزية المقاومة للردّ على أي عدوان ينفّذه الاحتلال خارج حدود القطاع، وشكل ذلك مفاجأة للاحتلال الذي لم يكن يتوقع نية المقاومة شنّ أي هجوم قريب، كما كانت تلك المعركة جواباً واضحاً بأن حماس غير منشغلة بسلطة سياسية، وأنها بينما تسعى لتحسين الأوضاع المعيشية لأهالي القطاع، تُعِدُّ نفسها عسكرياً وتستعدُ لجولات من القتال.
وبعد أيامٍ من انتهاء المعركة التي استمرّت لـ 21 أيار/ مايو، عقد السنوار مؤتمراً تفصيلياً امتد لحوالي ساعتين، ليشرح للشعب الفلسطيني أسباب وظروف المعركة للناس، ويوجّه رسائل مباشرة للاحتلال عما ينتظره في الأيام القادمة. وعكس هذا المؤتمر حرص السنوار على التواصل مع الجماهير، ومما تضمنه أيضاً تأكيده على دور حركة المقاومة التي لا تخضع لضغوطات الواقع، فقال رداً على اللوم الذي تلقته الحركة حول المعركة: “ليست وظيفتنا كمقاومة أن نوظف الإنجاز العسكري لإنجاز سياسي، هذه مهمة العالم، يبدأ يجري وهو لا يدري كيف يحتوي الموقف لئلا ينفجر من جديد، ويقدم الانجازات السياسية لشعبنا”.
اختتم أبو إبراهيم السنوار خطابه، بالقول: “ليعلم الاحتلال الصهيوني أن هذه كانت مجرد بروفا، مجرد مناورة صغيرة”13. لكن أحداً لم يصدّق تهديدات السنوار، ولم تأخذها استخبارات الاحتلال على محمل الجد، فزادت من غيّها وعدوانها على المجتمع الفلسطيني بكافة أماكن تواجده. ظنّ الاحتلال بعد “سيف القدس” أنه لجم المقاومة إلى الأبد، وممّا أعطى المؤشرات على ذلك عدم تنفيذ حماس لوعودها بالرد عند المساس بالمسجد الأقصى، وعدم مشاركتها الفعلية في المعركة التي خاضها الجهاد الإسلامي مع الاحتلال في آب/ أغسطس 2022.
لكن السنوار، كان يمسك بعنان فرسٍ لا يُلجم، يستعد أن يصهل صهلته الفريدة يوم السابع من أكتوبر، معلناً بدء انطلاقة معركة كبيرة جداً: معركة “طوفان الأقصى” 2023.
الرأس المدبّر
لم يكن “طوفان الأقصى” ضرباً من جنون أُلفق للسنوار كعقلٍ مُدبّرٍ للمعركة، بل كان جزءاً من سباقه المستمر لتحرير فلسطين، الفعل الذي لا يؤجل للغد. الفعل الذي يجب أن نفعله الآن، قبل أن تسلب “إسرائيل” المسجد الأقصى، وقبل أن تبتلع ما تبقى من الجغرافيا، وقبل أن تتوسع وتتغول أكثر فأكثر، وقبل أن نُنسى تماماً وإلى الأبد.
طوفان الأرض والنفس.. عندما انتهت فكرة “إسرائيل”
قدّم السنوار طوال سنين حياته التي بذلها في الجهاد درساً عملياً في فاعلية محاربة “إسرائيل”، وأن التحرير ممكن وقريب، بدءاً من زنزانته في سجن عسقلان عندما بقي يحفر في جدار الزنزانة بسلك ومنشار حديدي صغير سعياً للهرب، فكادت أن تنجح خطته لولا أن كشفه السجان. لم يستسلم، فحاول مرة ثانية في سجن الرملة، فقطع قضبان النافذة وجهز حبلاً طويلاً، ولكنه كُشف مجدداً في اللحظة الأخيرة.
غير أن محاولة السنوار الثالثة باختراق حصن “إسرائيل” بأكمله في السابع من أكتوبر، قد نجحت نجاحاً باهراً. حينها، لم ينتزع حريته لوحده، بل حرية أمة كاملة ترفض الهوان. وأسس بذلك لمرحلة قادمة ستغير ملامح المنطقة بأكملها، وأسس لثأر تتناقله الأجيال لا ينتهي إلا بزوال “إسرائيل”؛ الزوال الذي لطالما قال السنوار إنه بات يقترب أكثر وأكثر.
عصر 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، بعد عام كامل و10 أيام و10 ساعات على بدء معركة طوفان الأقصى، ينشر جيش الاحتلال صورة للسنوار شهيداً، ممداً، مرتدياً جعبته العسكرية الممتلئة بالقنابل اليدوية، بين أنقاض مبنى مفخخ، كمنت فيه مجموعة مقاتلين وخاضوا اشتباكاً لساعات، يغطيه غبار المعركة وبارودها، مصاباً بنيران دبابة اخترقت جبينه العالي وفجرت رأسه؛ الرأس المدبّر للطوفان.
لاحقاً، نشر الاحتلال مقطعاً مصوراً التقطته طائرة مُسيّرة للحظات الأخيرة للسنوار، يجلس على أريكة، يُخفي ملامح وجهه بلثام، وقد أُصيب بإصابات بليغة بكلتا يديه، يقاوم وهو يلفظ أنفاسه، فيلقي عصا خشبية على الطائرة، مستحضراً قول عمر بن الخطاب: “فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به”.
ورغم سكونه، بدا كأنه يُلقي لنا خطابه الأخير، لم يزح وجهه، نراه محدقاً بعيوننا، انتظرناه أن يصرخ بنا، فكان الصمت رسالته الأخيرة. ووصل صدى صوته مردداً أبيات علي بن أبي طالب:
أَي يَومَيَّ مِنَ المَوتَ أَفِر يَومَ لا يَقدِرُ أَو يَومَ قَدِر
يَومَ ما قُدِّرَ لا أَرهَبُهُ وَإِذا قَدِّرَ لا يُنجي الحَذَر
مات السنوار كما أراد وسعى، فكان يقول: “نحن نخاف أن نموت على فراشنا كما يموت البعير، نخاف أن نموت بسكتة قلبية أو جلطة دماغية، أو حادث طرق، أو موت كما يموت عامة الناس، لكننا لا نخشى بالمطلق أن نقتل في سبيل دينا، وفي سبيل مقدساتنا، وفي سبيل قيمنا، وفي سبيل أوطاننا، إننا تربينا منذ نعومة أظفارنا على أننا نعشق الموت كما يعشق عدونا الحياة”.
استشهد سيد الطوفان، صدفة وجدوه -كما عند اعتقاله- في الصفوف الأمامية للاشتباك، وفي عمق ميدان المعركة، بعد أن انشغل الاحتلال وجيشه بالبحث عنه بعيداً في الأنفاق، وانهمك في رسم صورةٍ للقائد الذي يترك شعبه يواجه الموت وحده بينما يحتمي هو وعائلته بالأسرى الإسرائيليين. هكذا أراد الاحتلال، لكن ربّ الكون أراد شيئاً آخر، صيّره على أيديهم، فنشروا صوراً أخيرة له ستخلد في أذهان الناس وقلوبهم إلى يوم الدين.
هكذا، تنقّل المقاتل الشبح من موقع قتالي إلى آخر طوال معركة الطوفان، وخاض الاشتباك تلو الآخر، بلا معلومة واحدة عنه، متسلحاً ببندقية ومجموعة قنابل يدوية، ومسبحة، وكتيب أذكار، وزجاجة عطر صغيرة مع علكة للفم وقصاصة أظافر، مفوّتاً على الاحتلال فرصة -ولو يتيمة- بأن يخرجوا من مشهد استشهاده انتصاراً واحداً لهم، ولو كان رمزيّاً.