اطلس:منذ تفرد الولايات المتحدة بالموقف الدولي بعد سقوط الإتحاد السوفيتي، والدول الكبرى التقليدية تدفع ثمن هذا التفرد، بانحسار نفوذها، وتضرر مصالحها، ومحاصرتها، وخلق بؤر التوتر لها، وتدخل الولايات المتحدة في شؤونها، وفرض سياساتها عليها كما حصل مع بريطانيا وفرنسا بشأن توسيع الاتحاد الأوربي وتعزيز حلف شمال الأطلسي، وكما حصل مع روسيا عقب انهيار الاتحاد السوفييتي واستيلاء الشركات الأميركية على كثير من مقدرات روسيا الاقتصادية، وإخراج الأخيرة من معظم دول الاتحاد السوفييتي، ومحاولة تفكيك الاتحاد الروسي ذاته عبر حرب الشيشان. بالإضافة إلى مساعي الولايات المتحدة لتطويق الصين بحزام من التوتر في تايوان والفلبين وأفغانستان. وبالتالي فإن أكثر الدول تأثرًا بهذا السياسات هي روسيا والصين، إذ لا يخفى ما تقوم به أميركا من محاصرة لروسيا وزجها بحرب طويلة الأمد مع أوكرانيا، وإن كان ثمة دعوات ومحاولات لتجميد الأزمة الأوكرانية قد بدأت بسبب تصاعد النزاع في الشرق الأوسط في الشهر الأخير. كما لا يخفى دعم أميركا لتايوان رغم أن تايوان جزءٌ من الصين، وأن أميركا نفسها تدعي التزامها بمبدأ صين واحدة.
ونتيجة لذلك فإن هذه القوى الصاعدة والمتضررة من التفرد الأميركي، والتي لم تعد مصالحها مرتهنة بيد الولايات المتحدة فحسب، بل أصبحت مستهدفة بحيث يجعل تحقيقها كلًا من روسيا والصين تدوران في فلك الولايات المتحدة كالحالة التي عليها الدول الأورويبة، قد وجدت ضالتها في التكتل لإحداث التوازن مع قوة الولايات المتحدة ونفوذها العالمي وتفردها بالموقف الدولي عبر تجمع بريكس، الذي ضم كلًا من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. حيث تراهن روسيا والصين على التسلل إلى الدول عبر شقوق علاقتها مع الولايات المتحدة، وعبر رغبة بعض الأنظمة والقادة في التخلص من العقوبات الأميركية، وتعزيز سلطتهم الداخلية التي تهددها المشاريع الأميركية كتركيا وإيران والهند. وقد كشفت الحرب على غزة ومحور المقاومة، وإسقاط نظام بنغلاديش الموالي للهند، ومساندة أميركا للجيب الكردي في سوريا حجم الفجوة في علاقة هذه الدول مع الولايات المتحدة؛ ولهذا جاء الهجوم على شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية “توساش” أول أمس وسط مساعي أردوغان لمعالجة قضية عبد الله أوجلان لسد ثغرة الشغيب الكردي، وجاء أيضًا أثناء انعقاد قمة دول بريكس ليحمل رسالة ضغط وتحذير أميركي.
غير أن روسيا والصين وإن كانتا تسعيان في الظاهر لتغيير الموقف الدولي وإعادة تشكيله، لكنهما تتوسلان من الدعوة لتعدد الأقطاب الدفاعَ عن مجاليهما الحيويان، والحفاظ على مصالحهما، وهو الأمر الذي تُعدّه الولايات المتحدة “منافسة إستراتيجية كبيرة لتشكيل مستقبل النظام الدولي”، ويتضح ذلك في مقدمة وثيقة إستراتيجية الأمن القومي الأميركي وفي سياساتها إزاء الصين وروسيا وفي تركيز الولايات المتحدة على مركزية الغرب والدعوة إلى الليبرالية وتصريحات الإدارة الأميركية. وتتلخص هذه المنافسة الاستراتيجية في “حرب النماذج” وهي المعركة بين “الديمقراطية والاستبداد”. ولقد حصرت أميركا المنافسة في المسائل والقضايا “الاقتصادية للقرن الحادي والعشرين” وفي الجانب القيمي. وهدفها المعلن هو “الاستفادة من العقد الحاسم (عقد العشرينيات الحالي) لتعزيز المصالح الحيوية لأميركا، وتمكين الولايات المتحدة من التفوق على منافسيها الجيوسياسيين”.
وقد جرى توسيع تجمع بريكس مؤخرًا ليشمل كلًا من: مصر وإثيوبيا وإيران والإمارات العربية المتحدة والسعودية والأرجنتين. عدا عن الدول التي تلقت دعوات الانضمام إليه، والدول التي تقدمت فعلًا بطلبات الانضمام للتجمع. وقد ألمح مسؤولون روس إلى أن 30 دولة ترغب في الانضمام إلى هذا التجمع، أو تحاول توثيق علاقاتها بنادي بريكس الاقتصادي.
ولا شك أن إصرار بوتن على استضافة القمة في بلاده ينطوي على رسالة مفادها أن محاولات عزل روسيا قد باءت بالفشل. كما تنطوي على عزم كل من الصين وروسيا مواصلة سعيهما لكسر حدة التفرد الأميركي في الموقف الدولي ودفع الضرر عنهما، واستثمار أي نجاح للمجموعة لإحداث تغيير في الموقف الأميركي على المدى البعيد. بيد أن هذا الطموح وإن كان يعتبر محاولة جادة لتحقيق هذا الهدف، إلا أنه يواجه كثيرًا من التحديات التي تعترضه؛ ذلك أن هذا التجمع لا يُعتبر حلفًا دوليًّا تتفق فيه إرادة الجميع على هذا الهدف، علاوة على الخلافات والمنافسات البينية التي تحكم علاقة أعضاء هذا التجمع ببعضها، كالخلافات الحدودية بين روسيا والصين وخلافات الصين والهند، والخلافات التي بين مصر وإثيوبيا. بالإضافة إلى ارتباط مصالح الصين التجارية مع الولايات المتحدة وأوروبا، وارتباط بعض الدول بعلاقة تبعية بالولايات المتحدة، وهو ما يجعل انضمامها لمجموعة بريكس بمنزلة لغم في داخله رغم أن وجودها في المجموعة يحقق رغبة روسيا والصين بإضفاء الصفة العالمية للتكتل ورفع الصفة الإقليمية عنه. ومثل هذه الدول ترجو من وجودها في هذا التجمع تحفيز اقتصادها، والاستفادة من الأفضلية لأعضاء بريكس في السياسات الاقتصادية التي تنتهجها.
إن إعلان قازان، الصادر عن الدول الأعضاء في بريكس -التي تمثل حوالي 35% من الاقتصاد العالمي- يتضمن فكرتين مهمتين، الأولى: أنه يدعو لإلغاء العقوبات الاقتصادية الأحادية الجانب والثانوية التي تتعارض مع القانون الدولي، والثانية: إنه يشجع على استخدام العملات المحلية للدول الأعضاء في المعاملات المالية بين دول بريكس وشركائها التجاريين، من خلال اطلاق نظام “بريكس كلير” في محاولة لتغيير مسار التسويات المالية العالمية التي تهيمن عليها أميركا والغرب بعامة عبر نظام سويفت ونظام تسويات الدولار. وإذا ما تمكنت بريكس من تحقيق هاتين الفكرتين، صار إنزال الدولار الأميركي عن عرشه مسألة وقت ليس أكثر. إلا أن ذلك سيحتاج إلى وقت طويل ليصبح مقبولًا على نطاق واسع، وبخاصة في ظل التحديات القائمة في النظام المالي الدولي، والمقاومة المحتملة من الغرب. ومن ذلك تعهد المرشح الجمهوري دونالد ترمب بأن يظل الدولار عملة الاحتياطي العالمي، والذي تعهد أيضًا بفرض تعريفات جمركية صارمة تصل إلى 100% على واردات الدول التي تسعى للتخلي عن الدولار كعملة عالمية.
كما يصطدم بواقع كون الدولار عملة عالمية مفضلة وموثوقة، وأن أغلب الدول التي تتعامل بالدولار هي دول إما حليفة لأميركا، وبالتالي من مصلحتها أن يبقى الدولار هو عملة الاحتياطي العالمي، ووحدة التعامل الدولية في التبادل التجاري. وإما دول تابعة، لا تملك من أمرها شيئًا، وبالطبع لا تملك أن تخالف أميركا في سياساتها الاقتصادية، وإلا تعرضت لهزات اقتصادية وبلابل داخلية، لا تقوى على مواجهتها. وهذا بالإضافة إلى أن مجموعة بريكس، والقائمين عليها (روسيا والصين) يفتقرون للكاريزما وللبديل القيمي الجاذب بالمقارنة مع النموذج الأميركي الغربي المتفوق، حتى يستقطبوا الدول الأخرى لتنضم إليهم أو تلتف حولهم، ومن ثم حتى تتحمل تلك الدول تبعات التخلص من الهيمنة الأميركية الأطلسية واستبدادها بشعوب العالم. وهذا ظاهر من خلو خطابات قادة قمة المجموعة من أي لغة توحي بأن تجمعهم يتعدى الطموحات والآمال ولغة الصداقة فيما بينهم، أو يتخطى عتبة “المعارضة” للسياسات الأميركية وإدارتها للأزمات الدولية. إذ لم تتمكن هذه الدول خارج لقاءاتها السنوية من تعزيز التنسيق فيما بينها لحماية مصالحها في مجالها الحيوي بشكل منتج فضلًا عن عجزها عن ضمان الأمن العالمي و”النظام الدولي العادل”. كما أن الحياد ما يزال يحكم مواقف غالبية أعضاء منظمة شنغهاي وبريكس من الحرب الأوكرانية، وما تزال ردود الفعل وليس المبادرة هي الطاغية على تعاطيهم مع التغول الأميركي. كما أن القضية الأساسية لروسيا والصين من وراء هذه المجموعة (بريكس) تركز على الجانب الاقتصادي وإن كان طابعها سياسيًّا، وهذا على أهميته في مواجهة أميركا لكنه لا يكفي لتغيير الموقف الدولي، إذ لا بد من إعادة هيكلة المؤسسات والمنظمات الدولية التي تمت هندستها لخدمة المصالح الغربية. صحيح أن الدولتين الرئيسيتين في بريكس (روسيا والصين) متحدتان بسبب المصلحة المشتركة في مواجهة أو كبح جماح تغول أميركا، وقبتها الاقتصادية الخانقة على الاقتصاد العالمي بأكمله، لكن مساعيهما ما تزال في طور محاولة إيجاد مساحة للتنفس في ظل الخناق المضروب عليهما من خلال استراتيجية (فوق الأفق) الأميركية، التي أقرت في عهد أوباما واستمرت في عهد بايدن، وهي استراتيجية الحروب بالوكالة.
ورغم أن كثيرًا من الدول تنظر إلى مجموعة بريكس باعتبارها الأمل في تحرير العالم من الهيمنة الأميركية، ورغم أن فكرة بريكس هي من أهم الأفكار السياسية التي تؤسس لخطوات صحيحة لسحب البساط من تحت الهيمنة الأميركية على العالم. إلا أن نجاح هذه الكتلة يحتاج وقتًا ومصابرة، ويحتاج قدرة فائقة للحفاظ على وجود هذا التجمع والسير بخطوات ثابتة لتحقيق أهدافه.