المشهد في مدينة غزة وشمالها وباقي مناطق قطاع غزة المستهدفة من قبل جيش الاحتلال الصهيوني هوأنّ القنابل الأمريكية هي التي تتساقط بدلّا من المطر. وبينما تقول فيه الإدارة الأمريكية بأنه يجب زيادة المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، ما تفعله واقعيًا هو زيادة المساعدات اللاإنسانية حيث ترسل قنابل MK-84 التي تزن حوالي 908 كيلو جرام، والتي يُسقطها طيارون صهاينة يقودون طائرات أمريكية أيضًا، لتسحق مربعات سكنية على رؤوس ساكنيها، في حرب إبادةٍ جماعية لم تحدث منذ الحرب العالمية الثانية.
تبكي المرأة الثكلى وتولول على قارعة الطريق بثوب صلاةٍ مُهلهل يُغرقه كمٌّ من الغبار والدماء، تجلس القرفصاء وتنبش بأظافرها ركام المنزل، تنوح بصوتٍ مبحوحٍ، تُكرّر وتُعيد الكلمات “مات الضنا، راح وحيدي، مات ابن عمري، يا ويلي كيف بدي أعيش من بعده”. قالت وقالت الكثير عن أمنياتها بأن تراه عريسًا، وأن ينجب الكثير من الأبناء لأنه وحيدٌ ليس له أخوةٌ أو أخوات، لكنّها لم تتوقع أن تعود من مشوار البحث عن الماء لتجد بدلًا من الماء دماءً، وأن السماء أمطرت قنبلةً على المبنى الذي كانت تحمي ابنها فيه، ولم تجد أيًّا من سكان المبنى والنازحات والنازحين إليه، ولم تجد وحيدها ابنها حبيبها، وهي التي كانت ترفض أن ترسله للتسوّق أو لإحضار الماء أو الخبز، لأنها تخشى أن تفقده في قذيفةٍ طائشة، ولكنها فقدته الآن إلى الأبد حيث غاص في أعماق الأرض، لقد استشهد الولد.
حالة هذه المرأة كحالة الكثير من النساء الثكالى اللواتي فقدن فلذات أكبادهن، وأخرياتٍ أصبحن أرامل بفقدان أزواجهن بقنابل أمريكية الصنع عالية الجودة، كما خسرن بيوتهن التي قُصفت بسلاح الماندور الألماني أو فُجّرت بلُغمٍ ألماني أيضًا. هذه هي الأسلحة التي يستخدمها الجيش الصهيوني في حربه على مدينة غزة وشمالها، وأيضًا في الغارات على الخيام والبيوت التي تأوي النازحات والنازحين في خانيونس ورفح والمحافظة الوسطى.
وبالرغم من جرائم الإبادة التي ارتكبها الجيش النازي الصهيوني وما زال يرتكبها يوميًا منذ ثلاثمائة وواحدٍ وتسعين يومًا حتى الآن على مرأى العالم عبر شاشات البث المباشر، إلّا أنّ القادة الأمريكيين ما زالوا يرسلون سفنهم مُحمّلة بأسلحة الدمار الشامل لدعم الكيان الصهيوني، وأيضًا لتجريب أسلحتهم المبتكرة وقياس حجم تدميرها، وهي ذات القنابل والمتفجرات التي يستخدمها الجيش الصهيوني في لبنان أيضًا، والمُفزع والمُخزي أنّ السفن الأمريكية ترسو في موانئ عربية، والطائرات تنطلق من قواعد أمريكية من دول عربية مزوّدة بالنفط العربي، لتظهر حقيقة الشراكة القذرة لتلك الدول العربية مع مُثلّث الإجرام الرسمي العالمي الصهيوني الأمريكي الأوروبي، في حرب الإبادة ضد شعبنا الفلسطيني، حيث الاستهداف المباشر بوجهٍ خاص للأطفال والنساء في قطاع غزة الذين يشكلون ما يزيد عن سبعين بالمائة من الضحايا وأصبحوا وقودًا لهذا العدوان الغادر، في أهدافٍ مُعلنة لدفن القضية الفلسطينية برُمّتها تحت أنقاض المنازل.
وتزداد الحقيقة سطوعًا عندما يصمت العالم أمام قرار الحكومة الصهيونية بحظر عمليات الأنروا- وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، وأنّ مقرّاتها لن تكون محمية حيث لن يُسمح للمسؤولين فيها بالتواصل مع الجانب الإسرائيلي في نطاق سيطرتهم على أرض الواقع. وهكذا، يستمر قادة الحرب الصهاينة ضرب القرارات الدولية بعرض الحائط، سواء قرار محكمة العدل الدولية أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتوصيات المقررين الخواص في الأمم المتحدة وآخرها كان بيان فرانشيسكا ألبانيز المقررة الأممية المعنية بفلسطين حيث طالبت بتعليق عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة حتى تتوقف عن انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني.
هذا يتم في الوقت الذي تضرب فيه الإدارة الأمريكية بدورها أيضًا القرارات الدولية بعرض الحائط، وتستمر بدعمها العسكري والمعنوي للكيان الصهيوني، كما يتشدق القادة الأمريكان بضرورة توسيع رقعة دولة الاحتلال لأنهم يرونها صغيرة على الخارطة الجغرافية.
وما يزال جيش الاحتلال بتضليل الرأي العام الدولي، حيث يُغلق المعابر ويسمح فقط بدخول الفٌتات للتجار تحت يافطة أنّها “مساعدات إنسانية”، كما يمنع الغذاء والماء والدواء منذ أكثر من ثلاثة أسابيع عن شمال غزة (جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون) ويستخدم التجويع كجزءٍ من حربه الدائمة كي يُجبر الناس على النزوح.
إنّ ما يجري على أرض الواقع لهو زلزال مُريعٌ لا يتوقف، بالرغم من ادعاء الوسطاء أنّ هناك مفاوضات لوقف العدوان مؤقتًا، ولكن لا بشائر في الأفق حتى الآن. غير أنّ الأمل يبقى قويًا بأن يأتي اليوم الذي ينتهي فيه هذا العدوان، وأن يعود الناس لبناء ما دمّره الصهاينة المجرمون.
“زينب الغنيمي، من مدينة غزة تحت القصف والحصار”