ربى مسروجي تكتب .. من القوة الناعمة إلى القوة المباشرة: عودة إلى الجذور

كان الصراع عبر التاريخ البشري على خيرات الأرض ذا طابع دموي يعتمد على منطق القوة، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة. وقديمًا قيل: “وهل اقتتلت العرب والروم إلا على البقل؟” في إشارة إلى أن الحروب كانت دائمًا تدور حول الموارد والمصالح.

ولا حاجة للخوض بعيدًا في التاريخ، فالأمثلة الحديثة كافية. فقد بُنيت الإمبراطورية الأمريكية على جماجم 55 مليونًا من السكان الأصليين (الهنود الحمر)، بينما أسست بريطانيا وفرنسا مستعمراتهما بعد حروب ذهب ضحيتها عشرات الملايين. ومع تصاعد الثورات التحررية، اضطر الاستعمار للتراجع، لكنه لم يختفِ، بل تحوّل إلى حكم بالوكالة عبر أنظمة تابعة تُبقي الدول المستعمَرة تحت سيطرة غير مباشرة، تضمن استمرار نهب الموارد وبقاء النفوذ الاستعماري.

خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، واجهت القوى الاستعمارية تمردات وثورات دفعتها إلى الانسحاب عسكريًا، لكنها أبقت الدول “المستقلة” تحت رقابتها عبر أنظمة سياسية تابعة تدور في فلكها. وهكذا، لم يكن الاستقلال في العديد من الدول سوى استبدال الحاكم الأجنبي بحاكم محلي خاضع لنفس القوى الاستعمارية.

مع انقسام العالم إلى معسكرين في النصف الثاني من القرن العشرين، سعت بعض الدول إلى الانفصال عن النفوذ الاستعماري. وهنا ظهرت أداتان رئيسيتان للسيطرة، خصوصًا من قِبَل الولايات المتحدة التي تسيدت العالم الاستعماري بعد الحرب العالمية الثانية: القوة الخشنة عبر التدخلات العسكرية والضغوط الاقتصادية، وكانت وكالة CIA هي أداتها الرئيسية، والقوة الناعمة عبر التأثير الثقافي والإعلامي والمساعدات، وبرزت هنا وكالة التنمية الأمريكية (USAID)، التي لعبت دورًا محوريًا في تعزيز الهيمنة الأمريكية.

بعد الحرب العالمية الثانية، لعبت CIA دورًا رئيسيًا في الإطاحة بأي نظام يخرج عن طاعة الولايات المتحدة، حتى لو لم يكن تابعًا للمعسكر الاشتراكي. وبرزت تدخلاتها في سوريا عام 1949 عبر انقلاب حسني الزعيم الذي أطاح بحكومة شكري القوتلي، بسبب رفضه توقيع اتفاقية أنابيب النفط مع واشنطن. وفي إيران عام 1953، أسقطت حكومة محمد مصدق بعد تأميم النفط، وأعادت الشاه إلى الحكم. كما نفذت عمليات مماثلة في غواتيمالا عام 1954، وحاولت غزو كوبا في خليج الخنازير عام 1961، وساهمت في انقلاب إندونيسيا عام 1965، وساعدت في الإطاحة بالرئيس التشيلي سلفادور أليندي عام 1973، إضافة إلى عشرات الانقلابات الأخرى، التي لم يُكشف عن وثائقها حتى اليوم.

بعد فضائح انقلابات CIA الفاشلة، مثل فضيحة كونترا جيت، تحول التركيز نحو القوة الناعمة. ومن هنا، توسّع دور USAID، التي أُسست عام 1961 تحت إشراف وزارة الخارجية، ثم أصبحت تتبع الرئيس مباشرة عام 1967، مما عزز نفوذها داخل مجلس الأمن القومي الأمريكي.

وإذا كانت CIA تعتمد على القوة العسكرية والضغط الاقتصادي، فإن USAID وظّفت أدوات أكثر دهاءً، مثل الإعلام عبر قنوات مثل CNN وBBC، التي تروّج للرواية الأمريكية وتشوه خصومها، والتعليم والمناهج الدراسية من خلال نشر قيم الغرب وإضعاف الهويات الوطنية، والمراكز الثقافية والمنح الدراسية التي تخلق نخبة موالية للمصالح الأمريكية.

ميزانية الوكالة نمت لتصل إلى 1% من ميزانية الولايات المتحدة، أي 64 مليار دولار عام 2024، وامتد نشاطها إلى أكثر من 100 دولة، حيث تعمل على تعزيز النفوذ الأمريكي بعيدًا عن التدخلات العسكرية المباشرة.

لكن الدور الحقيقي لـ USAID ظهر جليًا في تمويل منظمات المجتمع المدني (NGOs) لتوجيه الحركات الاجتماعية والسياسية بما يخدم الأجندة الأمريكية، والتأثير على المناهج الفلسطينية، حيث اشترطت واشنطن تعديلها لتتوافق مع “سلام أوسلو” وتعديل الرواية الفلسطينية بما يخدم الرواية الصهيونية، ودعم “الثورات الملونة”، كما حدث في أوكرانيا وبولندا، وكذلك خلال “الربيع العربي”، حيث لعبت المؤسسات الممولة من الوكالة دورًا بارزًا في التحولات السياسية بالمنطقة.

مع وصول ترامب إلى الحكم، تخلى عن النهج الأمريكي التقليدي الذي يوازن بين القوة الناعمة والخشنة، مفضّلًا الابتزاز المالي المباشر. أجبر السعودية على دفع 400 مليار دولار خلال أولى سنوات حكمه، وهدد أوروبا بزيادة مساهماتها في الناتو، وإلا سيتم تفكيك الحلف، وأعلن صراحة أن الدول يجب أن تدفع مقابل الحماية الأمريكية. كما مارس ضغوطًا على دول عربية لاستقبال المهجرين من غزة ضمن مخططات تصفية القضية الفلسطينية.

في خطوة غير مسبوقة، قرر ترامب تجميد عمل USAID ونقل مسؤوليتها إلى وزارة الخارجية، على أن يتم تقييم دورها خلال 90 يومًا، مع الإبقاء فقط على المساعدات الغذائية والإنسانية الطارئة.

إيلون ماسك، أحد أبرز رجال الأعمال الداعمين لترامب، صرّح بأن USAID غير قابلة للإصلاح، وأن سياسة “أمريكا أولًا” تقتضي إغلاقها نهائيًا.

إذا تم ذلك، فهذا يعني انسحاب أمريكا من أدوات النفوذ الناعمة في أكثر من 100 دولة، وتسريح آلاف الموظفين العاملين في الوكالة، وفتح المجال أمام قوى أخرى مثل الصين وروسيا لملء الفراغ الذي ستتركه الولايات المتحدة.

السؤال الأهم الآن: هل يمثل تراجع USAID وانسحاب أمريكا من أدوات القوة الناعمة مؤشرًا على تراجع نفوذها عالميًا؟ أم أنه مجرد تحول تكتيكي نحو الهيمنة المباشرة؟

يبدو أن الولايات المتحدة، بعد عقود من الاعتماد على القوة الناعمة كأداة رئيسية لترسيخ نفوذها، تتجه نحو التخلي عنها لصالح أسلوب أكثر مباشرة ووضوحًا، يقوم على الابتزاز المالي والضغط العسكري والاقتصادي. هذا التحول قد يكون ناتجًا عن إدراك واشنطن أن قدرتها على التأثير غير المباشر لم تعد تحقق النتائج المرجوة في ظل صعود قوى عالمية منافسة مثل الصين وروسيا، اللتين تقدمان بدائل اقتصادية وتنموية للدول النامية بعيدًا عن النفوذ الأمريكي. في المقابل، فإن هذا الانسحاب قد يحمل مخاطر استراتيجية، إذ أن تقليص أدوات القوة الناعمة يعني خسارة واشنطن لمساحات التأثير التي بنتها لعقود طويلة، مما قد يسرّع من تراجع نفوذها العالمي ويفتح الباب أمام قوى أخرى لملء الفراغ.

إن التحولات الراهنة قد تكون بداية انهيار الإمبراطورية الأمريكية، التي قامت على الحديد والنار ونهب ثروات الشعوب، ومع زوالها، لن يبقى لمشاريعها الاستعمارية في المنطقة أي مقومات للبقاء. فطالما كان الاحتلال في فلسطين مشروعًا غربيًا بامتياز، مدعومًا ماليًا وعسكريًا ودبلوماسيًا من الولايات المتحدة، فإن أي تراجع في النفوذ الأمريكي عالميًا سينعكس بشكل مباشر على هذا الكيان، الذي يعتمد بالكامل على الدعم الأمريكي لضمان تفوقه الإقليمي. ومع تصاعد حركات المقاومة، وتزايد أزماته الداخلية، فإن السؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح ليس فقط عن مستقبل الدور الأمريكي عالميًا، بل أيضًا عن مدى قدرة المشروع الاستيطاني على الاستمرار في ظل عالم يتغير بسرعة، حيث لم تعد واشنطن القوة الوحيدة التي تحدد قواعد اللعبة.

عن Atlas

شاهد أيضاً

ربى مسروجي تكتب : ترامب واستعمار فلسطين: مشروع تهجير تحت غطاء استثماري

تُعيد تصريحات الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، تأكيد الطبيعة الاستعمارية للمشروع الصهيوني، وتكشف أن السياسات …