اطلس:هكذا هي غزة حيث الموت يلاحق الناس في كل مكان وهكذا يتحدث أهلها و يقولون و نكتب على لسانهم .
اكثر من عام ونصف مضت على الحرب في غزة، والتي تتواصل بفمها المفتوح، المتسع يوما بعد يوم، لابتلاع المزيد من الضحايا من المدنيين العزّل الذين لا حول لهم ولا قوة. استمرار القتل الجماعي للمدنيين، بهذه الوتيرة الجنونية، وفي حين يطرح الأسئلة حول أخلاق الحرب، والسياسيين الذين يتخذون قرارات الحرب، وقادتها، فإنه يطرح أسئلة كبرى أيضا حول النفسية التي يمضي من خلالها الجنود لقتل المدنيين، وأسئلة أخرى أكبر حول مصير الإنسانية في العصر الحديث، بعدما تغنّت الدول الغربية بالحضارة، والتقدّم التكنولوجي، لكن هذا التقدّم يصبح غثاء بلا قيمة، حينما يتعلّق الأمر بإسرائيل، تلك الدولة الاحتلالية التي تضرب القوانين الدولية والإنسانية بعرض الحائط، وترتكب جرائم فتاكة ضدّ الإنسان الفلسطيني، متجاهلة كافة الضوابط والأخلاقيات التي ينادي بها الإنسان في العالم المتحضر كما يدعون.
إن الحرب لدى القوي لا تعلّم سوى الحماقة والمزيد من العنف ضد البشر، وتدعم القسوة والمقابر الجماعية وتهجير البشر، لكنها لدى الضعفاء، تؤجّج مشاعر النقمة والغضب، وتفتح نوافذ جديدة في المخيلة، لم تكن لتفتح لولا الحرب، من خلال ما تفرضه من خوف وجراح وقلق وعجز، في ظلّ انقطاع المعونات الإنسانية كالماء والكهرباء والطعام، والتشتت الاجتماعي، والفقد، وانقطاع التواصل والمواصلات بين السكان، وهدم المنازل، وتدمير البنية التحتية للمدن.
لقد زوّدتنا الحرب بخبرة مزدوجة في الحياة، وفي الموت، وكذلك أولئك الأطفال الصغار، لقد صار دوي الانفجار في بعض الأحيان لا يخيف، وفي الكثير من الأحيان نعرف قوة الضربة التالية من صوت الطائرة، صرنا نعرف اتجاهات الضربات، لكن الشيء الوحيد الذي لا يتغير من حرب لأخرى، ومن قذيفة لأخرى، هو طعم الألم، وحسرة الفقد والوداع والخوف، الخوف من كل شيء.
هكذا تصنع الحرب الخبرة لدى الأطفال الصغار، الذين لا يملكون ترف ألا يكونوا شهودا على الحكاية، بل إنهم يمتلكون ذواتا تمتلك القدرة على السرد، هذه الأجيال الصغيرة، التي شكّلت الحرب وعيها قسرا، ستكون في المستقبل حاملة للرواية كاملة، ولن يخرج جيل فلسطيني جاهل بقضيته، كما حدث في أوقات سابقة.
علمتني الحرب أن أتوقّع الأسوأ دوما، فلا حصانة لفرحة أو نغمة تفاؤلية. والحياة ليست مسرحا أو رواية، يتحكم بها الكاتب المسالم، لينتج جمالا ورونقا ، في غزة، أكبر دراما أنتجتها البشرية، وآلات الحرب الإسرائيلية الأميركية المدمرة، لقد علّمتنا هذه الحرب تحديدا، أنه لا إنسانية في هذا العالم الحديث والمتحضر ، حيث لا قيمة للإنسان أن كان فلسطينيا.
لقد علمتني الحرب أيضا أن أتأمل ملامح أحبابي جيدا، فاللحظات الصادقة المريحة قد تتلف بفعل القصف الوحشي، وقد لا تعود الملامح إلى سابق عهدها، وقد تختفي بفعل حرق جلد الوجه، بفعل الأسلحة الأميركية المتطوّرة التي تستخدمها إسرائيل في الحرب الأخيرة، فالأسلحة لا تكتفي بإزهاق روح الجسد، بل تحرق معالم الوجه، والظهر والبطن، فتختفي ملامح الإنسان، تُمحى كأنها مخطوطة من الرمل على سطح أملس.
في غزة عائلات تكتب أسماء أطفالها على سيقانهم وأقدامهم، خشية من أن يصبح الأطفال مجهولي الهوية بعد جولة من جولات القصف، مثلما حدث مع الالاف الأشخاص قبلهم، لربما تعطي بهذا العائلة، إشعارا للدافنين فيما بعد، بأن يدفن أفراد العائلة بعضهم قرب بعض، و خوفا على أطفال بعضهم لم يستعمل أقدامهم بعد، من الوحشة والضياع.
شيء آخر يمكن تعلمه، أن الإنسان لربما يكون في خطر التشرد حتى بعد موته، فقد ألفنا أن الإنسان قد يتشرد، لا يجد مسكنا، مبيتا، أو لا يجد المال ، لكن أن يحدث ذلك بعد الموت، فهو أمر كارثي. فخلال هذه الحرب، عانت الناس في غزة من نقص في القبور، وأكياس الموتى، والكثير من الموتى تركوا تحت الأنقاض، لعدم كفاية فرق الدفاع المدني، مقارنة بعدد المنازل المقصوفة فوق رؤوس ساكنيها في غزة، فتقارير الدفاع المدني في القطاع، تشير إلى وجود الالاف المدنيين تحت الأنقاض لم يتم إخراجهم، بسبب نقص الإمكانات، وكذلك فتح المجال لفرق الإنقاذ، لانتشال الجرحى لا الموتى من تحت ركام البيوت المهدمة ، الاكثر الما من ترك منهم في الطرقات تنهشه الحيوانات.
ولأنه لا حول للمدنيين في غزة ولا قوة، ولا مكان للفرار، فإن الاستسلام للموت الحتمي، بفعل القصف المفاجئ، أمر يتكيّف معه الجماعات والأفراد. حيث لا ملاجئ آمنة خلال القصف ، حتى إذا هرب السكان، فإنهم يهربون من مكان مهدد، لمكان آخر لربما يُقصف بعد قليل، وهو ما حدث مع الكثير من النازحين، فماتوا في منازل الآخرين، التي اعتقدوا أن الأمان فيها.
في هذه الحرب، يواسي أفراد العائلة والصحفيين وفرق الأطباء والمسعفين، بعضهم بعض، لدحر الخوف قليلا، باستعارة فكرة حربية، وهي أنك إن سمعت صوت إطلاق الصاروخ، ومن ثم انفجاره، فتكون نجوت بالفعل هذه المرة، وعلى هذا فإن كان الصاروخ موجها إليك، فلن تشعر بشيء، ستموت أنت وسيسمع الآخرون صوت الانفجار، كل هذا يجسد حوارا ذاتيا مع الموت، وكأننا نقول له تعال إن أردت، سنغفل قليلا عن التفكير الموحش في حضورك، لأنك إن أتيت، سنكون خارج حدود هذا الألم الموحش ، وخارج حدود هذا العالم.
أضافت هذه الحرب مخيلة جديدة للألم داخل عقلي، فلم أكن أتخيل من قبل أن تجرى عملية بتر لقدم إنسان أو يده، دون تخدير، لكن هذا حدث على نطاق واسع داخل مستشفيات غزة، إذ نفدت المعدّات والأدوات الطبية لدى المستشفيات، بفعل الحصار الإسرائيلي المطبق على كل شيء، مما اضطر الأطباء لإجراء عمليات جراحية عديدة دون استخدام البنج، وهنا لا مشاعر يمكنها تجسيد ما يحدث، فقط الألم الإنساني في أقصى صورة ممكنة له.
علاوة على ذلك، فتلك العمليات تُجرى في طرق وممرات المستشفيات، لعدم كفاية الغرف المخصصة لذلك، فيصبح الألم مكشوفا على ذاته، وجحيمه منعكسا في وجوه من يعيشونه ويرونه، ومن يحاولون عبثا التخفيف منه.