اياد عبد العال يكتب : التناقضات الداخلية في الكيان الصهيوني: قرطبة تتكرّر

لطالما صوّر الكيان الصهيوني نفسه كقلعة منيعة في قلب العالم العربي، مدعومة بتفوق عسكري غير مسبوق، وبتأييد غربي شبه مطلق، وموحّدة تحت راية “أرض الميعاد”. غير أن من يتأمل واقع هذا الكيان اليوم، يدرك أن جدران القلعة بدأت تتشقق، وأن ما لم تنجح الضربات الخارجية في تحقيقه، قد يتحقق بفعل التآكل المستمر من الداخل.
كما سقطت قرطبة، درة الأندلس، بفعل الصراعات الداخلية وتفتت السلطة، يبدو أن سيناريو مشابهًا يعيد نفسه في فلسطين المحتلة. لا لأن الخارج أصبح أقوى، بل لأن الداخل يزداد ضعفًا وتمزقًا، وغارقًا في تناقضاته التي يصعب التوفيق بينها.

أولًا: تناقض سياسي عميق
الكيان الصهيوني يعيش أزمة سياسية خانقة، تجلّت في الانقسام العنيف حول ما سُمّي بالانقلاب القضائي، والذي أخرج مئات الآلاف إلى الشوارع احتجاجًا على محاولات اليمين المتطرف تقويض استقلال القضاء. حكومة نتنياهو، المرتكزة على تحالفات دينية وقومية متطرفة، تواجه رفضًا متصاعدًا من قطاعات واسعة من المجتمع العلماني والليبرالي، مما يعكس هشاشة ادعاءات “الديمقراطية الإسرائيلية”.
ولا تنحصر الأزمة في السياسات فحسب، بل تمتد إلى البنية المؤسسية ذاتها: هل الكيان ديمقراطي أم ثيوقراطي؟ هل تحكمه المؤسسات المدنية أم يهيمن عليه الجيش؟ هل هو دولة قانون أم سلطة المستوطنين؟

ثانيًا: أزمة أمنية متفاقمة
منذ عملية 7 أكتوبر، دخل الكيان في دوامة أمنية غير مسبوقة: فشل استخباراتي مدوٍّ، انهيار نفسي في صفوف الجنود، ارتباك في اتخاذ القرار، وتراجع ملحوظ في هيبة المؤسسة العسكرية. الجبهة الشمالية رغم القصف والدمار لم تُخترق برًّا، بينما المقاومة في غزة ما تزال صامدة بعد شهور من العدوان، وتتصاعد العمليات في الضفة والقدس، بالتزامن مع التوتر المتزايد داخل الأراضي المحتلة عام 1948.
جيش يُفترض أنه لا يُهزم، بات اليوم مرهقًا، يئن تحت وطأة الاستنزاف، ويشهد ارتفاعًا في معدلات التهرب من الخدمة العسكرية وتراجعًا في الثقة بقيادته السياسية والعسكرية.

ثالثًا: تفكك اجتماعي بنيوي
ما يسمى بـ”المجتمع الإسرائيلي” ليس كيانًا موحّدًا، بل فسيفساء من المكونات المتناحرة:
• صراع بين اليهود الشرقيين، المنحدرين من أصول عربية، واليهود الغربيين (الأشكناز) ذوي الأصول الأوروبية، الذين يحتكرون النفوذ السياسي والاقتصادي في الكيان.
• تناقض صارخ بين المستوطنين المتطرفين وسكان المدن الكبرى العلمانية.
• احتكاك دائم بين اليهود والفلسطينيين في الداخل المحتل.
• تهميش واضح ليهود الفلاشا (من أصول إثيوبية) الذين يواجهون عنصرية ممنهجة.
• انتشار الجريمة والعصابات، في ظل تقاعس أو تواطؤ واضح من الشرطة، مما يزيد من هشاشة النسيج الاجتماعي.
كل هذا يُضعف الشعور بالانتماء، ويفكك مفهوم “الهوية الجمعية” الذي يُفترض أن يكون أساسًا لقيام الدولة.

رابعًا: صراع ديني على هوية الدولة
الصراع بين الحريديم (المتدينين المتشددين) والعلمانيين لا يقلّ خطورة عن باقي التحديات. الحريديم يرفضون التجنيد، ويضغطون لفرض نمط حياتهم على الفضاء العام، في حين يشعر العلمانيون بأن الدولة تُقاد نحو “ثيوقراطية دينية” لا تمثلهم. هذا التوتر يضع الأسس المدنية للدولة على المحك، ويزيد من شعور كل فئة بالغربة عن الأخرى.
تُطرح اليوم أسئلة وجودية كانت مؤجلة لعقود: من يملك القرار؟ ما هو تعريف “اليهودي”؟ وهل دولة “الوطن القومي لليهود” قادرة أصلًا على توحيد من لا يتفقون على تعريف أنفسهم؟

خامسًا: أزمات اقتصادية تنخر البنيان
لا يمكن تجاهل البعد الاقتصادي في تحليل عوامل التفكك، فالتحديات المالية تلعب دورًا محوريًا في زعزعة الاستقرار الداخلي:
1. تفاوت طبقي مزمن بين الأشكناز والشرقيين: منذ تأسيس الكيان، سيطر الأشكناز على مفاصل الاقتصاد والسلطة، فيما عانى الشرقيون من التهميش. هذا الواقع خلق توترًا متصاعدًا، يتفاقم مع اتساع الوعي الطبقي وازدياد الاحتجاجات.
2. تكاليف معيشة خانقة وأزمة سكن حادة: يُصنَّف الكيان من بين الأعلى عالميًا في تكاليف المعيشة، خصوصًا في تل أبيب. الشباب باتوا يشعرون بانسداد الأفق، وهو ما يدفع بعضهم للهجرة أو الانخراط في حركات الاحتجاج.
3. اعتماد مفرط على الدعم الخارجي: المساعدات الأمريكية تمثل ركيزة أساسية للاقتصاد، وأي تحول في موقف واشنطن أو إعادة ترتيب أولوياتها قد يُحدث أزمة مالية خانقة تهدد الاستقرار الداخلي.
4. الاستنزاف المالي بسبب المستوطنات: الإنفاق على البنى التحتية والأمن في المستوطنات يُثقل كاهل الاقتصاد، ويزيد من الانقسامات السياسية والدولية حول شرعية هذا المشروع.
5. الفجوة بين المتدينين والعلمانيين: الحريديم الذين لا يشاركون بفعالية في سوق العمل، يعتمدون على الإعانات الحكومية، ما يثير سخط العلمانيين الذين يشعرون أنهم يتحملون العبء وحدهم.
6. تراجع الاستثمارات والتأثيرات الجيوسياسية: مع اشتداد الأزمات الأمنية والسياسية، بدأت بعض الشركات الكبرى تفكر في سحب استثماراتها من السوق الإسرائيلي، خوفًا من عدم الاستقرار أو فقدان السمعة.
سادسًا: العزلة الدولية تتسع
في السنوات الأخيرة، بدأت صورة “إسرائيل” تتآكل على الساحة الدولية، ليس فقط في أوساط الشعوب، بل حتى في بعض مراكز القرار. العدوان الوحشي على غزة، الانتهاكات المستمرة في الضفة والقدس، واستمرار المشروع الاستيطاني رغم الإجماع الدولي ضده، كلها عوامل ساهمت في تصاعد العزلة السياسية والأخلاقية.
شهدنا مظاهرات حاشدة في عواصم العالم تطالب بفرض العقوبات، ونشوء حركات شعبية تدعو إلى المقاطعة، وظهور أصوات غربية قوية تطعن في شرعية الرواية الصهيونية. حتى بعض الحلفاء التقليديين باتوا يجدون صعوبة في تبرير الدعم غير المشروط لكيانٍ يُتهم بارتكاب جرائم حرب.

الخاتمة: حين يتهاوى الحصن من الداخل
ما يُقدَّم للعالم كدولة قوية، متماسكة، متفوقة، هو في الحقيقة كيان مأزوم، منهك من الداخل. التناقضات السياسية، والانقسامات الاجتماعية، والأزمات الاقتصادية، والصراعات الدينية، والانكشاف الأمني، والعزلة الدولية — كلها تشكّل معولًا متكاملًا يهدم الأسس التي قام عليها هذا المشروع الاستعماري.
قرطبة لم تسقط بضربة من الخارج، بل سقطت عندما تصدعت من داخلها. والتاريخ لا يُعيد نفسه حرفيًا، لكنه يتكرّر حين تتشابه الظروف. وما نشهده اليوم في الكيان الصهيوني هو إعادة إنتاج لنهاية كل كيان قام على القهر والتناقض.
قد تكون لحظة الانهيار أقرب مما يتخيل البعض… فالحصن قد يبدو صلبًا، لكنه مجوَّف… والخط الفاصل بين التفكك والانهيار لا يُقاس بالقوة العسكرية، بل بمتانة الجبهة الداخلية — وهي اليوم، بلا شك، الأضعف منذ تأسيس الكيان

عن Atlas

شاهد أيضاً

إسماعيل مسلماني يكتب : “إصلاح أم انقلاب قضائي؟ أزمة التعديلات القضائية تهز إسرائيل”

اطلس:تغيير تعيين القضاة في إسرائيل هو جزء من الإصلاحات القضائية التي تحاول حكومة بنيامين نتنياهو …