اطلس:كتب إسماعيل الريماوي: إن سياسة “إطعام غزة بالقطّارة” لا تقتصر على كونها استراتيجيات عسكرية إسرائيلية معروفة، بل هي تجاوز خطير للأبعاد الإنسانية، التي يجب أن تُحترم في أي نزاع ، هذا النوع من الحروب، الذي يطاول المدنيين ويلعب على الوتر النفسي والاقتصادي، يكشف بشكل جلي عن تحول أدوات الحرب التقليدية إلى أنماط جديدة تتجاوز القتل المباشر ، وفي ظل غياب ردود فعل فعالة من المجتمع الدولي، يبدو أن هذه السياسة تستهدف سحق قدرة غزة على الاستمرار، ومحاولة تفكيك نسيجها الاجتماعي والسياسي بما يتماشى مع مصالح إسرائيل الاستراتيجية.
منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي واسع النطاق على قطاع غزة في أكتوبر 2023، اتخذت إسرائيل شكلاً مركباً من الحصار والسيطرة الميدانية والمناورة السياسية، تجلّى بشكل خاص في ما يمكن وصفه بسياسة “إطعام غزة بالقطّارة” هذه السياسة لم تنشأ من فراغ، بل هي امتداد منطقي لعقيدة إسرائيلية ترى في الأدوات الإنسانية وسيلة فاعلة من وسائل الحرب، تهدف إسرائيل من خلالها إلى إخضاع الخصم ليس فقط بالقصف والتدمير، بل أيضاً بالإفقار والتجويع والضغط النفسي والاجتماعي.
ما يُمارس اليوم ضد سكان غزة يتجاوز في كثير من أوجهه الحالة التقليدية للحصار، ليصبح نموذجاً من أنظمة التحكم الحيوي الذي يُبقي السكان على حافة الحياة، دون السماح لهم بالانهيار الكامل، الهدف من ذلك هو استخدام هذا الوضع كوسيلة ضغط استراتيجية متعددة الاتجاهات.
في شمال قطاع غزة، حيث الدمار شبه الكامل وانهيار المنظومة الصحية والخدمية، تتعمد إسرائيل منع دخول المساعدات أو عرقلتها أو تقنينها بطريقة تجعلها تصل بكميات رمزية وغير منتظمة ، وقد كشف مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن إسرائيل منعت ما يزيد عن تسعين بالمئة من بعثات الإغاثة الإنسانية إلى الشمال ، بل إن القوافل القليلة التي تم السماح لها بالدخول واجهت عراقيل على الأرض، إما من خلال استهداف الطرق أو رفض السماح بنقل مساعدات معينة، هذا جعل سكان تلك المناطق يعيشون في ظروف مجاعة شبه مكتملة الأركان.
ومع ذلك، تحرص إسرائيل على تقديم نفسها في الإعلام الدولي كطرف يفتح المجال “جزئياً” لدخول الإغاثة، وذلك بهدف تقويض أي اتهامات قانونية واضحة أمام الرأي العام العالمي، مستغلة في ذلك سيطرتها الكاملة على المنافذ الحدودية وإمكانية التحكم في تدفق المعلومات من القطاع وإليه.
الهدف من هذا النهج متعدد الأبعاد، فمن جهة، يُستخدم التجويع كسلاح مباشر ضد السكان لدفعهم إلى الإحباط واليأس، والضغط على المقاومة الفلسطينية عبر خلق حالة نقمة شعبية داخلية ضد القوى التي ما زالت تقاتل إسرائيل وتتصدى لمشروعها في القطاع. ومن جهة أخرى، تسعى إسرائيل إلى تفريغ مناطق معينة من سكانها، خاصة شمال غزة، عبر دفع الناس إلى النزوح نحو الجنوب أو المناطق المحددة مسبقاً كممرات إنسانية.
هذا التهجير لا يتم فقط بالقوة العسكرية المباشرة، بل عبر خلق واقع معيشي مستحيل في أماكن بعينها، يجعل السكان أمام خيارين لا ثالث لهما: الموت البطيء أو الرحيل ، وما تسعى إسرائيل لتحقيقه هنا يتجاوز الحاجات الأمنية الآنية، ليصل إلى هدف استراتيجي يتمثل في إعادة تشكيل الخريطة السكانية للقطاع بما يخدم السيطرة طويلة الأمد عليه أو تقطيع أوصاله بما يتناسب مع التصورات المستقبلية الإسرائيلية.
في السياق ذاته، تتعامل إسرائيل مع المساعدات الإنسانية كأداة سياسية ، فهي تسمح بدخولها عندما يكون ذلك مفيداً لمسارات التفاوض، سواء كانت تتعلق بصفقة تبادل أسرى، أو بالحفاظ على الضغط الدولي عند أدنى مستوياته، أو بتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي وبالمقابل، تقوم بتعليق إدخال هذه المساعدات أو تأخيرها متى أرادت توجيه رسالة ردع أو خلق ضغط جديد على الأطراف الفلسطينية أو حتى على الأطراف الدولية المتدخلة.
هذا الاستخدام السياسي للمساعدات يمثل انتهاكاً صريحاً لمبادئ القانون الدولي الإنساني، الذي يُحظر بموجبه استخدام الغذاء أو الدواء كأداة ضغط في النزاعات المسلحة ، كما يُلزم القانون قوة الاحتلال بضمان توفير الاحتياجات الأساسية للمدنيين في الأراضي التي تحتلها أو تحاصرها.
النتائج المترتبة على هذه السياسة أصبحت كارثية بكل المقاييس، مستويات سوء التغذية الحاد ارتفعت إلى درجات غير مسبوقة، خاصة بين الأطفال، وانتشرت الأمراض المرتبطة بنقص الماء النظيف وسوء الصرف الصحي، في ظل انهيار شبه تام للقطاع الطبي ، ومع استمرار منع دخول الوقود والمستلزمات الطبية، باتت المستشفيات عاجزة عن تقديم أدنى درجات الرعاية، وتحولت مراكز الإيواء إلى بؤر لانتشار الأوبئة. وفي الوقت نفسه، بلغ عدد النازحين داخل القطاع أكثر من مليون ونصف المليون إنسان، يعيشون في ظروف بالغة القسوة، بلا مأوى حقيقي، وبلا أفق واضح للخروج من الأزمة.
الختام
ما يجري في غزة ليس مجرد صراع على الأرض، بل هو صراع على الكرامة والوجود، على حق البشر في الحياة دون إذلال أو تجويع و أن يُحسب الطعام بالقطّارة، وأن تُقاس الحياة بالسعرات، فذلك يعني أن الاحتلال لم يعد يكتفي بإسكات الصوت، بل يسعى لإطفاء الروح ، هناك في غزة، لا يموت الناس دفعة واحدة، بل يتساقطون ببطء: طفل يهلك من الجوع، أم تُحاصرها دموعها وعجزها، مريض يودع الحياة لأنه حُرم من جرعة دواء. إنها ليست مجرد مجاعة، بل خنق محسوب وممنهج لروح شعب بأكمله.
وإن كان القصف يقتل الجسد، فإن الجوع يقتل المعنى، يهدم الثقة في العالم، ويطرح سؤالاً مريراً على ضمير الإنسانية: كيف يمكن للعالم أن يرى شعباً يُذل ويُجوّع على مرأى ومسمع، ثم يصمت؟ غزة اليوم لا تطلب الشفقة، بل تطالب بالعدالة. تطالب بأن تُعامل كأرض يعيش عليها بشر، لا كملف تفاوض أو ورقة ضغط ، وإن بقي العالم يتفرج، فإن العار لن يطال القاتل وحده، بل كل من رأى ولم يصرخ، علم ولم يتحرك ، لأن من يقتل الفلسطيني جوعاً، يقتل ما تبقّى من ضمير هذا الكوكب.