اطلس:كأن الزمن متجمدٌ عند لحظة النكبة، وكأن الجغرافيا تئن من الغياب، وكأن الدم الفلسطيني لا يجف، بل يُهيئ نفسه دومًا لرحلة نزفٍ جديدة، في أرض جديدة، تحت سماء لا تزال تتفرج، تمر الذكرى السابعة والسبعون للنكبة، لا كحدثٍ دفنته الذاكرة، بل كجريمة مستمرة تُرتكب على الهواء، تُبث على الشاشات، وتُشرعن بوقاحة دولية، فيما العرب يغطّون في سباتهم الطويل.
ما يحدث في غزة ليس مجرد عدوان، بل فصلٌ جديد من ذات المشروع الذي بدأ عام 1948، مشروع لا يزال يطارد الفلسطيني من مهده إلى منفاه، من بيته الأول إلى قبره الأخير، مشروعٌ لا يمل من القتل ولا يشبع من التهجير، مشروعٌ يتقن تبديل الشعارات لكنه لا يبدّل هدفه الوحيد: شطب الفلسطيني من الخريطة، من الذاكرة، من الوجود.
غزة لا تُحاصر فقط، بل تُسحق تحت أنقاض الصمت، وتُذبح تحت جناح التواطؤ، وتُطرد من العالم كما طُردت القرى ذات يوم ، إسرائيل تعيد الكرّة، لكنها هذه المرة لا تُخفي شيئًا: المجازر تُعرض بالبث المباشر، والقتل لا يحتاج إلى تبرير، وكل ما هو مطلوب فقط أن تقف ساكنًا، صامتًا، متواطئًا.
جنوب غزة ليس ممرًا للنجاة، بل فخًا مفتوحًا على العدم، لا منفى يفتح ذراعيه، ولا بحر يحمل الأمل، ولا سماء تهبط منها المعجزات، هنا تُكتب النكبة من جديد، لا لأن الدم جديد، بل لأن التخاذل لم يعد خجولًا، ولأن القتل صار طقسًا معلنًا في نشرة الأخبار.
نكبة الأمس ارتُكبت باسم وعد بلفور وانسحاب بريطانيا، أما نكبة اليوم فتُرتكب باسم “تحرير الرهائن” و”محاربة الإرهاب”، وبينهما لا فرق سوى في القناع. الهدف واحد: سحق الروح المقاومة، خنق غزة لأنها تجرأت على قول “لا”، لأنها ما زالت ترفض رفع الراية البيضاء، ولأنها أصبحت فكرة، لا مكانًا؛ معركة، لا جغرافيا؛ فلسطين بأكملها، لا مجرد شريط ساحلي.
في ذكرى النكبة لا يكفي أن نبكي القرى التي مُحيت أو نُردّد أسماء المدن المسروقة، بل يجب أن نقرأ في غزة اليوم النسخة الأوضح من الجريمة ذاتها، نسخة بلا رتوش، بلا أعذار، بلا خجل، الصهيوني لم يكتفِ بسرقة الأرض، بل يريد احتلال الوعي، يريد إعادة كتابة الحكاية، يريد تحويل الجلاد إلى ضحية والضحية إلى مجرم.
في هذا الزمن المقلوب، يصبح الدفاع عن الوجود جريمة، ويصبح الشهيد رقمًا باردًا في شريط الأخبار. تتحول النكبة إلى دفتر مفتوح على حاضرٍ دامٍ، وتصبح غزة مرآة أمةٍ انكسرت، شاهدة على عجزها، ناطقة بصمتها، وشهيدها المستمر.
إسرائيل لا تحتفل بقيامها بالأناشيد، بل بالمجازر، لا ترفع علمها إلا على أنقاض البيوت المهدمة، وكأنها تقول بوضوح: النكبة ليست ذكرى، بل خطة عمل، وعقيدة دائمة، ومنهج لا يموت.
لكن وسط هذا الركام، تبقى الحقيقة الأبدية: أن الفلسطيني لا يموت، بل يولد من جديد في كل نكبة، كل بيت يُهدم يعيد بناء المعنى، وكل شهيد يُسقط كذبة الاحتلال، وكل موجة تهجير تزرع جذورًا أعمق. النكبة بدأت في يافا وحيفا في اللد والرملة، لكنها تُستكمل اليوم في رفح وخانيونس وجنين وطولكرم، لكنها هذه المرة نكبة في زمن المقاومة، لا في زمن الانكسار، نكبة تُكتب بسلاح الإرادة، لا بسيف الخنوع، نكبة لا تُعيدنا إلى الخلف، بل تدفعنا نحو معركة التحرر الكبرى، حيث لا منتصر إلا صاحب الحق.