اطلس:لعبت ولا زالت تلعب مؤسسات المجتمع المدني دوراً محورياً في حماية وتعزيز وإعمال حقوق الإنسان، وتمكين الفئات المهمشة والدفاع عن القضايا الوطنية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية في الأرض الفلسطينية المحتلة. إلا أن هذا الدور يواجه تحديات ليست بقليلة، ليس فقط بسبب الاحتلال، والبيئة السياسية والبنية الاجتماعية القائمة، بل أيضاً نتيجة ممارسات داخلية للبعض القليل من هذه المؤسسات والتي تتناقض مع القيم والمبادئ الحقوقية التي تروّج لها وتتبناها.
يلاحظ أن البعض القليل من مؤسسات المجتمع المدني في الأرض الفلسطينية المحتلة تُظهر التزاماً علنياً بمبادئ حقوق الإنسان والشفافية والحكم الرشيد، وتقدّم نفسها كمدافع شرس عن الحقوق والحريات، في حين أن ممارساتها المؤسسية تعكس تناقضاً صارخاً مع ما تتبناه وتدعو له من مبادئ.
فبعض هذه المؤسسات تتبنى خطاباً حقوقياً في العلن، لكنها على مستوى الأداء الداخلي والتنفيذي تمارس التمييز، وانتهاك حقوق النساء، والتستر على ممارسات تتناقض بشكل صارخ مع كرامة الإنسان وحقوقه الطبيعية. فهي تمارس الكذب والتدليس في تقديم نفسها للممولين وللجمهور، وتستغل التمويل لتحقيق مصالح شخصية ضيقة قد يصل بعضها إلى حد الإثراء غير مشروع، دون مراعاة أن هذه الأموال تُقدّم باسم الشعب الفلسطيني، وهدفها دعم قضاياه العادلة واحتياجاته المجتمعية.
إن استمرار هذه الممارسات من طرف البعض القليل من مؤسسات المجتمع المدني يترتب عليه آثار قد تكون مدمّرة لمجمل مؤسسات المجتمع المدني، ففقدان ثقة الجمهور، وضرب مصداقية الخطاب الحقوقي، وتشويه صورة العمل الأهلي، سيقود حتماً إلى إضعاف تأثير المجتمع المدني في السياسات العامة، والدفاع عن الفئات الضعيفة والمهمشة، وقدرته على محاربة الفساد بشتى أنواعه، عدا عن إضعاف البنية المجتمعية التي يُفترض أن تشكل خط الدفاع الأول في وجه الاحتلال والتشريد، ومنح الاحتلال وأعداء الشعب الفلسطيني الذرائع لتشويه صورة مؤسسات المجتمع المدني.
وفي ظل هذا الظرف التاريخي، وتحديداً ما تقوم به القوة القائمة بالاحتلال “إسرائيل” في قطاع غزة من حرب إبادة متعددة الأشكال، وتهجير قسري وفصل عنصري في الضفة الغربية، بهدف اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه وطمس هويته الوطنية، تزداد أهمية وجود مؤسسات مجتمع مدني قوية، باعتبارها جزءاً أساسياً من البنية المجتمعية التي لعبت دوراً رئيسياً في حماية وجود الشعب الفلسطيني وتعزيز صموده على أرضه. فهي الآن تتحمل مسؤولية مضاعفة؛ فإلى جانب دورها الحقوقي والتنموي، فهي مطالبة بأن تحمي النسيج الاجتماعي والوطني الفلسطيني، وأن تعكس من خلال سلوكها الداخلي التزاماً حقيقياً بالحرية، والكرامة، والنزاهة، والعدالة، وهي المبادئ التي يقاتل من أجلها الشعب الفلسطيني بأكمله.
في هذا السياق، تبرز أهمية دور الائتلافات المؤسساتية التي تضم عدداً من مؤسسات المجتمع المدني تحت مظلات تنسيقية مشتركة، حيث ينبغي أن تلعب هذه الائتلافات دوراً فاعلاً في مراقبة الأداء المؤسسي لأعضائها، ورسم خطوط حمراء واضحة تجاه الانتهاكات القيمية والسلوكية، بما يحمي الجهود الجماعية من التشويه والانحراف.
كذلك فإن مجالس إدارة هذه المؤسسات تتحمل مسؤولية مباشرة في ضمان اتساق السياسات الداخلية مع المبادئ المُعلنة، من خلال ممارسة دورها الرقابي والإشرافي بعيداً عن المجاملات والمصالح الشخصية، وتوفير قنوات داخلية آمنة للإبلاغ عن التجاوزات، وتفعيل آليات الشفافية والمساءلة.
إن حماية مصداقية المجتمع المدني الفلسطيني تتطلب وقفة جادة لمراجعة الذات، والاعتراف بأن الخطاب وحده لا يكفي ما لم يُترجم إلى ممارسات أخلاقية ومسؤولة. فالتغاضي عن الممارسات المسيئة للبعض القليل من مؤسسات المجتمع المدني، يهدد مكانة المجتمع المدني برمّته، ويضعف ثقة الناس به، ويفسح المجال لتغوّل السلطات وغياب المساءلة المجتمعية الحقيقية.
فمن واجب مؤسسات المجتمع المدني أن تتحمّل مسؤوليتها الأخلاقية والمهنية، وأن تراجع أداءها الداخلي بما يضمن اتساق خطابها مع ممارساتها الفعلية. واعتماد آليات مؤسسية شفافة للمساءلة والمحاسبة الداخلية، تشمل مراجعة الأداء وتدقيق السلوكيات والممارسات. وتطبيق مدونات السلوك الأخلاقي بصرامة ومهنية بعيداً عن المحاباة والحسابات الشخصية الضيقة، وربطها بسياسات واضحة تجاه الانتهاكات الداخلية. ووقف التعامل مع الأشخاص أو المؤسسات التي يثبت تورطها في استغلال التمويل أو انتهاك الحقوق، وإعلان ذلك بوضوح لضمان الشفافية. وتعزيز القدرات المؤسسية في مجالات حقوق الإنسان والنوع الاجتماعي والحكم الرشيد، ومبادئ الشفافية والمساءلة. وضمان الشفافية والمشاركة المجتمعية في إدارة المشاريع والتمويل والأنشطة.
وخاتمة القول تتلخص في أن بقاء المجتمع المدني الفلسطيني كقوة لها مصداقية وفاعلة ومؤثرة لا يعتمد فقط على حجم برامجه أو خطابه العلني، بل على صدقه الداخلي والتزامه الحقيقي بمبادئ حقوق الإنسان، والعدالة، والمساءلة. وفي سياق وطني يتعرض فيه الشعب الفلسطيني لحرب إبادة وطمس منظم لهويته، لا مجال لمزيد من التهاون أو التجاوز، إن تصويب بوصلة العمل الأهلي، وتعزيز الرقابة الداخلية، وتفعيل دور الائتلافات المؤسساتية ومجالس الإدارة، لم يعد ترفاً إدارياً أو تنظيمياً، بل بات ضرورة وجودية لحماية المجتمع المدني، واستعادة ثقة الناس، وتعزيز قدرة مؤسساتنا على الصمود والنضال من أجل الحرية والكرامة.