مروان طوباسي يكتب : الاستغلال السياسي “لفزاعة معاداة السامية”

اطلس:رغم الاتفاق أو الاختلاف حول النظريات الأنثروبولوجية والتاريخية التي تناولت مفهوم “السامية” والشعوب “السامية”، إلا أن الثابت أن هذا التصنيف ظل عبر العقود عرضة للتأويلات السياسية والاستخدامات الإيديولوجية، خصوصا من قبل الحركة الصهيونية التي اختزلت هذا المفهوم في خدمة مشروعها الاستيطاني، مستخدمة إياه كفزاعة لأداة قمع واستغلال لمواجهة أي انتقاد يطال سياسات الاحتلال الإسرائيلي .

تشير دراسات تاريخية وأنثروبولوجية عديدة إلى أن الكنعانيين ، الذين استوطنوا أرض فلسطين منذ آلاف السنين ، يُعدّون من أوائل الشعوب السامية، وأن الفلسطينيين المعاصرين هم الامتداد الطبيعي لتلك الشعوب . بل إن جزءًا من المكون اليهودي نفسه، في مراحله الأولى ، كان من بين ساكني هذه الأرض الفلسطينيين ، قبل أن تأتي موجات الهجرات الاستيطانية الصهيونية من أوروبا الشرقية والوسطى ، خصوصا من أصول خزرية وأشكنازية ، لتُشكل لاحقا النواة الأساسية للمشروع الصهيوني الذي لا يحمل أية صلة حضارية أو سلالية عضوية بهذه الأرض .

ومن جديد ، تطل علينا دعاية وفزاعة الحركة الصهيونية ودولة الاحتلال الإسرائيلي عبر بوابة قديمة “معاداة السامية”، لتبرير جرائمها المستمرة ، وآخرها وصف بنيامين نتنياهو و دونالد ترامب لعملية إطلاق النار على موظفين في السفارة الإسرائيلية بواشنطن بأنها “عمل معادٍ للسامية” رغم انها عمل فردي من مواطن أمريكي لم ينتهي التحقيق معه بعد . هذا الاستخدام المتكرر والمشوّه للمصطلح لا يهدف إلا إلى تشويه الحقائق ، وفرملة التضامن الدولي المتصاعد مع القضية الفلسطينية ، خاصة بعد اتساع رقعة الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية وتمدد عزلة حكومة نتنياهو على مستوى العالم ، بل وداخل إسرائيل نفسها.

الآن، ستستغل أجهزة الأمن الأمريكية وبعض الأطراف الرسمية قانون “التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست ” ، الذي ساهم ترامب في صياغة نصوصه خلال دورته الأولى لتجريم كل من ينتقد السياسات الإسرائيلية بحجة “معاداة السامية”. وهو قانون يخلط عمدا بين انتقاد مشروع سياسي استعماري استيطاني ، وبين معاداة شعب أو ديانة ، رغم عدم انطباق مفهوم شعب على اليهود كما على المسيحين او المسلمين .

تدّعي إسرائيل أن اليهود هم “ضحايا التاريخ”، في إشارة مستمرة للمحرقة النازية الهولوكوست ، لكنها تتجاهل أن هذه المحرقة ، رغم فظاعتها ، لم تكن موجهة ضد اليهود وحدهم ، بل استهدفت شعوبا أوروبية عدة ، ومن بينهم الفقراء من اليهود الأوروبيين أنفسهم ، الذين كانوا ضحية تواطؤ نخب من الحركة الصهيونية مع النظام النازي آنذاك ، كما كشفت وثائق “اتفاقية هآعفارا” الموقعة بين الصهاينة والنازيين في ثلاثينيات القرن الماضي . تلك الاتفاقية سعت لدفع اليهود نحو الهجرة إلى فلسطين وتأسيس كيان استيطاني يخدم أهداف الاستعمار الغربي .

اليوم ، تتبدد هذه السرديات أمام الرأي العام العالمي ، وتتكشف الطبيعة الحقيقية لمنظومة دولة استعمارية إحلالية ، تحاول أن تخلط الأوراق من جديد ، باستخدام روايات دينية ومصطلحات مضللة ، أو عبر عمليات استخباراتية تُثير الرأي العام ليتم استغلالها في قمع الحركات المناهضة لجرائم الاحتلال الإسرائيلي ، بينما هي ، أي إسرائيل ترتكب يوميا جرائم محرقة القرن ٢١ وإبادة ممنهجة بحق شعب أعزل يُباد تحت الاحتلال والاستيطان والضم والتجويع والتهجير والقصف غير المسبوق في التاريخ المعاصر ، بل حتى منذ اكثر من ٧٧ عاماً.

لكن من هو السامي فعلاً ؟ ومن هو العدو الحقيقي للسامية؟ فإذا عدنا إلى الجذور التاريخية واللغوية ، نجد أن “الساميين” يشملون العرب ويهود هذه الأرض أصلاً على حد سواء . بل إن العرب ، ومن ضمنهم الفلسطينيون ، هم من الشعوب السامية الأصلية في هذه الأرض . أما معظم من قاد المشروع الصهيوني ، فجاؤوا من خارج المنطقة ولا يربطهم بها أي انتماء حضاري أو تاريخي .

نزع الفلسطيني من أرضه ، وحرمانه من حق العودة ، وتهجيره وقتله اليومي ، ليست فقط جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ، بل هي في جوهرها جرائم ضد السامية الحقيقية ، لأننا نحن ، أبناء هذه الأرض ، الساميون الحقيقيون وفق بعض النظريات التي أشرت لها ببداية المقال ، نُقتل ويُسلب منا الوطن باسم “الدفاع عن السامية”.

لقد أدرك كثير من المفكرين الطابع الأستغلالي لهذا التلاعب. ومن أبرزهم المفكر الأممي وقائد الثورة الاشتراكية “فلاديمير لينين” ، الذي وصف الصهيونية في كتابه حول المسألة اليهودية ، بأنها “العدو الرئيسي للسامية ، لأنها تُحوّل وعي اليهود الكادحين عن النضال الطبقي ، وتستخدم الدين والقومية المشوهة لخدمة المصالح الإمبريالية، وتوجههم لاستعمار أوطان الآخرين بدلاً من التحرر داخل مجتمعاتهم الأصلية.”

هذا التوصيف الدقيق للصهيونية والذي أتفق معه ، يُؤكد أنها ليست حركة تحرر كما تدعي ، بل حركة رجعية استعمارية تسعى لتبرير الاحتلال وتبرئة جرائمه تحت غطاء “المظلومية اليهودية”، بينما تُوظف تهمة “معاداة السامية” لقمع أي انتقاد لسياساتها ، حتى لو صدر عن يهود أنفسهم ، كما هو الحال في الولايات المتحدة اليوم .

إن المحرقة الحقيقية الجارية اليوم الهولوكوست الحديث ، هي تلك التي تقع على أرض فلسطين . فمنذ أكثر من عام ونصف ، تشهد غزة حرب إبادة جماعية تُرتكب فيها أبشع المجازر، ويُقتل ويُجرح مئات الآلاف ، وتُدمّر أحياء ومخيمات بأكملها كما بالضفة الغربية أيضاً ، ويُقصف الأطفال والمدارس والمستشفيات ، وتُمنع المياه والطعام والدواء ، وتمارس الفوقية اليهودية وفق قوانين عنصرية ضد شعبنا الفلسطيني الباقي في أرضه التاريخية داخل “اسرائيل” ، بينما المجتمع الدولي يراقب بصمت ، أو يشارك بالتواطؤ كما تفعل بعض القوى الاستعمارية منه .

مقاومة هذه الجرائم ، وفضح هذا النفاق ، والدفاع عن حقوق شعبنا الفلسطيني غير القابلة للتصرف ، والتي أقرّتها كافة مواثيق القانون الدولي والمنظمات الأممية ، ليست أعمالاً “معادية للسامية”، بل هي في جوهرها دفاع عن السامية الحقيقية ، وعن الكرامة الإنسانية ، وعن حق تقرير المصير، والتحرر، والعدالة، والمساواة.

إذن ، السؤال اليوم “لترامب” ومجرم الحرب “نتنياهو” المطلوب للقضاء الدولي ، من هو المعادي للسامية؟
أهو الذي يطالب بحرية شعبه في وطنه، أم من يَقتل باسم التاريخ والتوراة ، ويُبرر محرقة القرن الحادي والعشرين والإبادة الجماعية بأساطير مختلقة وسرديات مُبتذلة ؟

عن Atlas

شاهد أيضاً

مروان طوباسي يكتب : الفرصة الأوروبية، كيف نبني على التحولات الشعبية والسياسية في الغرب؟

اطلس:تشهد الساحة الأوروبية تحولات لافتة في المواقف تجاه القضية الفلسطينية، تتجلى في عودة المظاهرات الشعبية …