إسماعيل الريماوي يكتب : جدران من دخان: حكاية بيت يُحاصر باسم المقام

اطلس:في احدى القرى الفلسطينية الهادئة ، حيث لا تصل الكاميرات ولا تتسابق وسائل الإعلام على أبواب البيوت، تعيش عائلة بسيطة في بيت ريفي صغير يحيط به ما تبقى من قطعة أرض ورثها الأب، أبو عادل، عن والده ، ليست أرضًا كبيرة ولا بيتًا فخمًا، لكنها تمثّل له آخر ما يربطه بهذا العالم، وآخر ما تبقى من كرامته.

أبو عادل ليس سياسيًا ولا صاحب ثروة، هو مزارع يعرف الأرض كما يعرف وجوه أولاده، يرى في شجرة الزيتون امتدادًا لكرامته المهدورة، وفي الحبة الخضراء تاريخًا لا يمكن بيعه أو المساومة عليه.

لكن في هذا البلد، الكرامة ليست دائمًا مصونة، والأرض ليست دائمًا لك حتى وإن كنت تملك أوراقها.

كان الجار رجلًا غريبًا في سلوكه، يُلقّب نفسه بـ”الشيخ” يظهر في كل صلاة، يطيل السجود ويتحدث عن الورع والتقوى ، وله ابن عم يعمل في أحد أجهزة الأمن ، هذا القريب يفتح له الأبواب المغلقة ويغطي له ما لا يُقال، وكأن “الشيخ” ليس فردًا عاديًا، بل مشروع نفوذ يتحرك بثقة وغطاء.

بدأت الحكاية حين أعلن “الشيخ” أن الأرض المجاورة له، أرض أبي عادل، تحتوي مقامًا دينيًا قديمًا ، لم يبرز شاهدًا ولا حجرًا ولا وثيقة. مجرد رواية من فم رجل يلبس عباءة الدين ويختبئ خلف ظل السلطة ، وما إن خرجت الرواية حتى تحولت إلى ذريعة، ثم إلى قضية، ثم إلى حصار يومي يتصاعد.

فجأة، بدأت الحجارة تنهال على بيت أبي عادل. لا من جنود الاحتلال، بل من أطفال الحي، الذين جرى تحريضهم باسم “الدين” و”المقام”، فكر أبو عادل ببناء سور صغير يحمي أرضه، فجاءه المنع الرسمي: الأرض “عامة”، والموقع “ديني”، وأي بناء عليه “اعتداء على الآثار” ، رغم أن أوراق الملكية بيده، جاءته دعوى قضائية يتهم فيها بالتعدي على “موقع أثري”.

لكن الأمر لم يتوقف عند حدود القانون، ذات مساء، حين كان أبو عادل خارج منزله، اندلع حريق غامض في البيت ، النيران التهمت جزءًا من الجدران ومن الأرض المحيطة ، حضرت الشرطة، نظرت، دوّنت سطرين في تقرير باهت، ثم غادرت ، لا تحقيق، لا أسئلة، لا اتهام. كأن النار اندلعت من تلقاء نفسها، وكأن العدالة ليست لأمثال أبي عادل.

منذ تلك اللحظة، بدأت حياة الرجل تتحول إلى طوق من الحصار الصامت، لم يجرؤ أحد على مساندته ، فالجار “الشيخ” محاط بهالة من القداسة، وابن العم حاضر في كل جهاز أمني، يحرك الأمور من خلف الستار، ويغلق الأبواب أمام أي تضامن، في استغلال سافر للنفوذ باسم الدين وبختم السلطة.

ليست هذه القصة استثناء ، في كثير من القرى المنسية، تُخلق المبررات بيسر، ويُحرَّك القانون على مقاس المصالح، وتُنتزع الأرض لا بالقرارات الرسمية، بل بالهمس، والتقارير، والتحريض، والرشاوى، وغطاء السلطة ، لطالما قيل لنا إن العدو هو من يحتل الأرض، لكن لا أحد يجيب حين يأتي الظلم من الداخل، متدثرًا بلباس الصلاة، وموثقًا بختم الدولة.

في تلك القرى التي لا تراها الكاميرات، ما زال الناس يتمسكون بما تبقى من تراب، وما زال بعضهم يدفع ثمن العيش بشرف ، في هذه الحكاية، لم يُهدم بيت أبي عادل بالكامل، لكن شيئًا في روحه قد تهدّم ، صار الخوف جارًا دائمًا، أكثر استقرارًا من أي جار.

عن Atlas

شاهد أيضاً

راسم عبيدات يكتب : عُقد التفاوض الأمريكي- الإسرائيلي

على جبهة ايران والمفاوضات حول الملف النووي الإيراني، عقدة تخصيب اليورانيوم، فأمريكا نتيجة ضغوط المتشددين …