هندسة التجويع مساعدات الغيتو واستغلالها كسلاح في يد أمريكا وإسرائيل

اطلس:كتب اسماعيل جمعه الريماوي: منذ اللحظة الأولى لإعلان الولايات المتحدة وإسرائيل عن إقامة “آلية إنسانية” لتوزيع المساعدات على سكان قطاع غزة، بدا أن الهدف الحقيقي ليس الإغاثة، بل السيطرة والضبط والابتزاز تحت غطاء إنساني مزيف. إذ لم يكن هذا المشروع سوى امتداد ميداني لسياسات التجويع المنظمة التي تقودها إسرائيل منذ شهور، ولكن بثوب أمريكي هذه المرة، وتحت لافتة “الاستجابة الدولية”. غير أن ما حدث على الأرض سرعان ما كشف الزيف والارتباك وسقوط الرهانات السياسية واللوجستية في آنٍ واحد.

منذ اليوم الأول لتفعيل هذه الآلية، التي وُصفت بأنها آمنة وخاضعة لإشراف مباشر من الولايات المتحدة، اندفع عشرات الآلاف من المدنيين الجوعى نحو نقاط التوزيع، في مشهد أعاد إلى الذاكرة لحظات الاندفاع القسري نحو البقاء. ولكن هذه المرة في سياق أكثر فوضوية وخطورة، حيث جرى إطلاق نار كثيف من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية على الجموع، في حين فقد عناصر الشركة الأمنية الأمريكية الخاصة، المكلّفة بتأمين الموقع، السيطرة بشكل كامل، قبل أن يفرّوا من المكان في حالة ذعر تفضح عمق التخبط وانعدام الجاهزية.

لم يكن اختيار شركة أمنية أمريكية خاصة لإدارة توزيع المساعدات تفصيلًا لوجستيًا، بل تعبيرًا دقيقًا عن التوجه الأمريكي نحو خصخصة أدوات السيطرة؛ حيث جرى تسليم واحدة من أكثر المهام حساسية في بيئة إنسانية معقدة إلى عناصر مدنيين مسلحين، بعضهم من جنود الشركات المرتزقة الذين اعتادوا العمل في بيئات الاحتلال كما في العراق وأفغانستان. لكن هذه المرة في قلب مجتمع مقاوم، يعرف عدوه جيدًا، ويرفض إخضاع حاجاته لأي سلطة مفروضة.

الشركة التي كُلفت بالعملية تعمل بعقود مباشرة مع البنتاغون، ويُعتقد أن اختيارها جاء لاعتبارات أمنية وسياسية معًا. فهي تتيح لواشنطن أن تمارس السيطرة الميدانية دون حضور عسكري رسمي، وتقدم لإسرائيل خدمة مزدوجة بتقليل انكشافها أمام المجتمع الدولي. لكنها لم تكن مؤهلة للتعامل مع واقع غزة، ولم تفهم الأرض التي دخلتها، ولم تمتلك غطاءً شعبيًا أو شرعية إنسانية، بل جاءت باعتبارها يدًا أمنية تحاول هندسة الجوع تحت تهديد السلاح. وكان طبيعيًا أن تواجه رفضًا شعبيًا، ثم هروبًا ميدانيًا.

وبينما كانت كاميرات الإعلام توثّق الفوضى والانفلات، كانت الرواية الإسرائيلية تحاول تقديم الفشل على أنه “اختلال في التنسيق”، بينما الحقيقة أن الآلية ذاتها بُنيت على إنكار الواقع، ومصادرة الكرامة، ومحاولة ترويض حاجات السكان وربطها بترتيبات أمنية تعمّق الاحتلال وتمنحه اليد العليا، حتى في عمليات الإغاثة. وهو ما رفضه سكان القطاع بوعيهم الفطري لما يختبئ وراء هذه “الهبة الأمريكية”. فمشهد الاقتحام الواسع لمركز التوزيع لم يكن مجرد فوضى عابرة، بل رفضًا عمليًا لإخضاع الجوعى لمنطق العدو ومفرداته.

أما على المستوى السياسي، فإن الانخراط الأمريكي في توزيع المساعدات داخل غزة، بعد أكثر من تسعة عشر شهرا من الدعم غير المشروط للآلة الإسرائيلية، ليس تحولًا إنسانيًا، بل محاولة لتجميل صورة واشنطن المتآكلة في الضمير العالمي. فالإدارة الأمريكية التي وفرت الغطاء السياسي، والذخيرة الحربية، والطائرات القاتلة لإسرائيل طوال الحرب، تحاول الآن أن تقدم نفسها كراعٍ لآلية إنسانية. لكنها اصطدمت بحقيقة أن الشعوب لا تنسى من يقتل أبناءها، ويصادر قوتها، ثم يعود ليمنّ عليها ببقايا الطحين.

السكان على الأرض قرأوا هذا التحول بوضوح، وتعاملوا معه كجزء من هندسة الحصار لا ككسر له. فالأمريكي الذي يسلّح إسرائيل لا يمكن أن يتحول بين ليلة وضحاها إلى شريك في الإغاثة. ورفضهم العملي لهذا المشروع هو نوع من التصويت الشعبي ضد هذه الازدواجية.
وفي الخاتمة:

لم تكن الفوضى التي اجتاحت مركز التوزيع مجرد خلل أمني، بل لحظة كاشفة لسقوط قناع “الإغاثة” حين يُلبس وجهًا استعماريًا.م فقد أرادت إسرائيل وأمريكا تحويل الجوع إلى أداة طيّعة لإخضاع الإرادة الفلسطينية، لكن ما حدث في غزة يقول إن الجائعين حين يدركون أن يد المُغيث تحمل البندقية، فإنهم سيختارون أن يقتحموا الجدار، ولا يقفوا في الطابور؛ أن يأخذوا ما تبقى لهم من الحياة بأيديهم، لا بفضل “رحمة” القتلة؛ وأن يثبتوا مرة أخرى أن الكرامة تسبق الخبز، وأن الحرية لا تُوزع عبر منصات الاحتلال، بل تُنتزع رغم كل قهر وإغلاق وحصار.

عن Atlas

شاهد أيضاً

من التنسيق إلى التفكك: سلطة بلا أوراق في زمن الحسم الإسرائيلي

اطلس:كتب إسماعيل جمعة الريماوي: في وقت تعيش فيه حكومة بنيامين نتنياهو واحدة من أكثر لحظاتها …