اطلس:كتب إسماعيل جمعة الريماوي: في وقت تعيش فيه حكومة بنيامين نتنياهو واحدة من أكثر لحظاتها هشاشة على المستوى الداخلي، وسط احتجاجات متصاعدة وأزمات سياسية متكررة تهدد استقرارها، يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى تعزيز قبضته على المشهد اليميني المتطرف، عبر تقديم الضفة الغربية كورقة مساومة رئيسية لضمان دعم شركائه من أحزاب اليمين الديني المتطرف، وعلى رأسهم “الصهيونية الدينية” ووزراؤها أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، الذين لا يترددون في المجاهرة بأهدافهم الاستيطانية والاستئصالية تجاه الفلسطينيين، بل وينافسون نتنياهو على من يكون أكثر تطرفًا.
هذه التحولات ليست طارئة أو عابرة، بل تعكس توجهاً استراتيجياً في بنية المشروع الصهيوني ذاته، حيث باتت الضفة الغربية مسرحًا لتوسيع الاستيطان، وفرض السيادة، وسحق أي شكل من أشكال الوجود الفلسطيني السياسي أو الشعبي، في إطار خطة متكاملة لضمها بشكل فعلي، وإن كان بالتدريج وتحت مظلة القوانين الإسرائيلية التي باتت تُفرض عملياً على الأرض ، ولأن أزمة نتنياهو الداخلية لا تُحل إلا بمزيد من إرضاء هذه القوى الفاشية، فإن الضفة ستبقى في قلب الصراع، لا باعتبارها أرضًا محتلة، بل باعتبارها “محمية توراتية” يجب تطهيرها من الفلسطينيين، حسب منطق شركائه في الحكم.
في المقابل، لا تزال القيادة الفلسطينية ممثلة بالسلطة تلهث وراء السراب ذاته: التفاوض، التنسيق الأمني، المراهنة على “حل الدولتين”، والتوسل للمجتمع الدولي من أجل العودة إلى طاولة محروقة منذ أكثر من ثلاثين عامًا.
فيما لاتزال السلطة تتصرف وكأن شيئًا لم يتغير، وكأن ما جرى في غزة منذ السابع من أكتوبر وما بعده ليس كافيًا لإحداث مراجعة جذرية، أو على الأقل لوقف التنسيق الأمني مع من يذبح الفلسطينيين جماعيًا أمام مرأى العالم.
فما الذي تبقى فعليًا للتفاوض عليه؟
في غزة، تمضي إسرائيل في مشروع تدميري متكامل: إبادة منهجية، تهجير قسري، تجويع ، وتغيير ديمغرافي يُراد له أن يكون دائمًا .
في الضفة، تسارع في وتيرة الضم والاستيطان والقتل على الحواجز وفي البيوت والجامعات، في القدس، يُحاصر الأقصى، وتُسلب الأحياء، وتُطارد الهويات.
في الشتات، تتآكل حقوق العودة تحت ضغط الصفقات والتطبيع ، وفي كل ذلك، تتمسك القيادة الفلسطينية بـ”مرجعيات مدريد وأوسلو”، وكأنها غير معنية بإدراك أن الأرض تحترق وأن ما يُسمى بـ”الدولة” لم تعد حتى وهماً مقبولاً.
هذا الإصرار على التفاوض لا ينبع من قناعة بجدواه، بل من عجز عن التفكير خارج قفص التنسيق الأمني والشرعية الدولية التي لم تعد ترى في الفلسطيني أكثر من رقم إغاثة أو حالة أمنية يجب ضبطها ، لقد تحولت السلطة من كيان سياسي انتقالي إلى جهاز وظيفي يحرس الاحتلال من الداخل، ويمنع الانفجار في وجهه، ويتكئ على دعم خارجي لا يضمن له سوى البقاء الإداري.
المفارقة المؤلمة أن السلطة تلهث للعودة إلى طاولة لم يعد فيها كراسٍ ولا أوراق ، والنتيجة أنها لم تعد تملك شيئاً تفاوض عليه، ولا حتى أوراق ضغط، ولا رصيداً شعبياً ، كل ما لديها هو رصيد متآكل من الخطابات والمبادرات، في وقت يُعاد فيه تشكيل فلسطين على يد الاحتلال بالقوة، وعلى وقع المجازر، وتحت غطاء أمريكي لا يتوقف عن تقديم السلاح والدعم السياسي لجرائم الإبادة الجماعية.
ما يجب أن يُقال بوضوح: لم يعد هناك “حل الدولتين”، ولا “شريك إسرائيلي”، ولا “عملية سلام” ، ما تبقى هو صراع مفتوح بين مشروع تحرير ومشروع استيطان، بين شعب يناضل من أجل البقاء واحتلال يريد شطب وجوده بالكامل. وفي هذا الصراع، لا مكان للحياد، ولا جدوى من التفاوض، ولا قيمة لأي سلطة لا تنتمي إلى مشروع التحرر، ولا تستمد شرعيتها من إرادة شعبها.
المفارقة المأساوية العميقة في المشهد الفلسطيني سلطة بلا سلطة، تفاوض بلا أوراق، وشريك إسرائيلي لا يعترف أصلاً بوجود شريك فلسطيني، في الوقت الذي يندفع فيه نتنياهو نحو أقصى اليمين، ويرتكز على دعم قوى فاشية واستيطانية لتثبيت حكمه، تُستخدم الضفة الغربية كمسرح لتعميق الاحتلال، وتوسيع الاستيطان، وفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة بحجة “الحرب على الإرهاب” أو “أمن المستوطنين” هذا ليس انحرافاً ظرفياً بل هو مسار إستراتيجي مُعلن، يشمل الضفة والقدس وغزة على حدّ سواء.
أما السلطة الفلسطينية، فهي لا تزال تدور في حلقة مفرغة من الوهم التفاوضي، تسعى لإرضاء الولايات المتحدة وإسرائيل عبر التنسيق الأمني، ومنع المقاومة، والترويج لحل الدولتين الذي أصبح من الناحية الواقعية مجرد خرافة سياسية، بعد أن قضى عليه الاستيطان والجدار والضم والتقسيم ، فالتفاوض الذي امتد لثلاثة عقود لم يُفضِ إلا إلى تآكل الحقوق، وتكريس الهيمنة الإسرائيلية اكثر وفرض الامر الواقع الذي يسعى الاحتلال الى تكريسه و فرضه على الفلسطينيين.